هل نحن بحاجة لطرح مفهوم الديمقراطية للمناقشة من أجل تحديد مضمونه؟، بعد أن ثبت بما لا يدع مجالا للشك أنه أقل النظم السياسية سوءا وأنه الأقدر على تحقيق أعلى وأدوم مشاركة سياسية فعالة، تؤدي إلى التغير في السياسات العامة وتداول السلطة سلميا. هذا بالرغم من نواقص المرحلة الراهنة من الممارسة الديمقراطية في العالم، مقارنة بالمثال الديمقراطي الذي لم يتحقق في الماضي ولا هو متحقق في الحاضر ولن يتحقق في المستقبل مثله مثل أي مثل أعلى آخر ideal، على حد تعبير روبرت دال أحد أهم منظري الديمقراطية المعاصرين في الغرب.
الإجابة في اعتقادي نعم، نحن في أمس الحاجة إلى ضبط مفهوم الديمقراطية قبل الحوار حولها والقول بالاتفاق أو الاختلاف على مضمونها. فنحن العرب - مع الأسف - مولعون بالشعارات نرفعها دون التوقف عند مضمونها ومتطلبات تحقيقها على أرض الواقع.
والديمقراطية اليوم شعار المرحلة مثلما كانت الاشتراكية في ستينيات القرن الماضي، كل يدعي الديمقراطية - أهالي وحكومات - ويتحدث باسمها طالما هو غير ملزم بتحديد مفهومه لها والالتزام بسلوكها، فما يقوله ويفعله هو الديمقراطية.
ولعل هذا الخلط والغموض بحسن نية وبغيره من الأسباب، هي التي جعلت مشروع دراسات الديمقراطية في البلدان العربية، يطرح في أول لقاءاته العام 1991 مفهوم الديمقراطية في أول نشاط له ويواصل حتى اليوم في 2010، طرح المفهوم ومقاربته مع ثوابت مجتمعات الدول العربية.
وتحظرني الآن الحالة التي واجهت الحضور في لقاء 1991 على الرغم من كونهم من بين المهتمين بالشأن العام، عندما حاولوا التوصل إلى مفهوم عام جامع، حيث اختلفوا، فكل لديه منظور للديمقراطية لا يتفق مع منظور الآخرين لها.
وأذكر أن الأستاذ محمود رياض (رحمه الله) قال للحضور لا تستغربوا فنحن لا نتوقف كثيرا عند المفاهيم وضبط المصطلحات وإنما تطربنا الشعارات فنرددها دون التوقف كثيرا عند معناها، فأنا مثلا منذ أن كنت في السادسة من عمري أشارك في المظاهرات وأردّد شعار «الاستقلال التام أو الموت الزؤام» وحتى اليوم لا أعرف بالدقة معنى الموت الزؤام.
من هنا اهتم مشروع دراسات الديمقراطية في البلدان العربية بضبط مصطلح الديمقراطية وما تفرع عنه من مصطلحات مثل الدستور الديمقراطي والحزب الديمقراطي والانتخابات الديمقراطية، تمهيدا لإجراء الحوارات حول الديمقراطية وأهمية وإمكانية الانتقال إليها، بين التيارات والقوى السياسية التي تنشد التغير السلمي.
ومن هذا الاهتمام بضبط المصطلحات، تنبثق محاولتي في هذا المقال الذي أمل أن يثري المناقشة ويعزز حوارا جاد ومسئول يساعد مجتمعات الدول العربية على تنمية مفهوم جامع للديمقراطية المنشودة.
بادئ ذي بدء، أقول إن الديمقراطية المعاصرة اليوم - بعد أن انتشرت في مختلف القارات وعبر الحضارات - ليست عقيدة تنافس غيرها من العقائد والأديان.
كما إنها ليست مجرد آلية لأية عقيدة، وإنما هي منهج ونظام حكم يتأثر مضمونه بالضرورة، باختيارات المجتمعات التي تطبق الديمقراطية فيها. ولهذا أصبح من الممكن للديمقراطية أن تقبل في مجتمعات تختلف فيها العقائد والأديان والمذاهب.
ولعل ما نسمعه من تطابق بين الديمقراطية وبين العقيدة الليبرالية، ومن ارتباط عضوي بين الديمقراطية والعلمانية في كل زمان ومكان، وكذلك ما نراه من محاولات تصدير واستيراد لشكل الديمقراطية الغربية دون مضمونها الإنساني والاجتماعي والوطني، إنما هو تحميل للديمقراطية بما ليس بالضرورة منها، وهو تشويه للديمقراطية لدى الجمهور، وصدّ لمجتمعاتنا عنها. فمجتمعاتنا لها ثوابتها ولها أهدافها العامة الكبرى، والديمقراطية هي أحد هذه الأهداف الكبرى، ويجب أن تكون الديمقراطية وسيلة لتحقيق الأهداف الأخرى... هذا من ناحية.
من ناحية أخرى... فإن نظام الحكم الديمقراطي له مقومات محددة. وعلينا القيام بالمقاربات المسئولة التي تحافظ على المقومات ألعامة المشتركة لنظم الحكم الديمقراطية، ومن ثم مواجهة إشكاليات الديمقراطية في المنطقة العربية بإزالة التعارض بين ماهو جوهري و بالضرورة من الديمقراطية، وبين ما هو بالضرورة جوهري ومن ثوابت مجتمعاتنا العربية - الإسلامية أيضا.
وجديرٌ بالتأكيد هنا أن نُظم الحكم الديمقراطية نظم مُحْـكَمَة لها مقومات مشتركة من مبادئ ومؤسسات وآليات وضوابط وضمانات – مثل سائر النظم ومنها نظام المرور المعاصر على سبيل المثال - لا تقوم لنظام الحكم الديمقراطي قائمة إذا انتقص منها.
لذلك لا يجب أن يأخذنا القول بضرورة مراعاة الديمقراطية لثوابتنا العربية والإسلامية، إلى القول إن الديمقراطية مفهوم هلامي يمكننا أن نطلقه على نظام الحكم أو الإدارة التي نرغب فيها متذرعين بثوابتنا أو أعرافنا دون مراعاة لما لا يقوم نظام الحكم الديمقراطي بدونه من مقومات.
ويمكننا إذا دققنا في قراءة نُظم الحكم الديمقراطية عبر القارات والحضارات - من ماليزيا والهند إلى جنوب إفريقيا وأميركا اللاتينية إضافة إلى أوروبا ودائرتها الحضارية - نجد أن مقومات عامة مشتركة بين أنظمة الحكم التي تكتسب اليوم صفة الديمقراطية. وتتمثل هذه في خمسة مقومات عامة مشتركة:
نظام الحكم الديمقراطي يعبر عن حق تقرير المصير وهو بالضرورة يتطلب أن لا يكون هناك محتل للبلد يضع الدستور أو يملي إرادته على واضعي الدستور. وإنما يجب أن يكون الشعب مصدر السلطات وأن لا تكون هناك بشكل ظاهر أو مبطن سيادة أو وصاية لفرد أو لقلة على الشعب أو احتكار للسلطة أو الثروة العامة أو النفوذ.
وجديرٌ بالتأكيد أن ممارسة السلطة مسألة عملية يقوم بها بشر، وهي إما أن يكون مصدرها الشعب أو الكثرة منه على الأقل أو يكون مصدرها – لا محالة - فرد أو قلة دينية أواجتماعية أوعسكرية أو أسرة حاكمة أو قوة احتلال.
ويمكن القول منذ البداية أن سلطة الشعب في التشريع - والتي تعتبر جوهر إشكالية الإسلام والديمقراطية - يمكن التوافق على تقييدها ديمقراطيا، مثلما هو الحال في كل الدساتير الديمقراطية - من أجل التغلب على إحدى إشكاليات الانتقال إلى الديمقراطية. ومثال ذلك حالة الدول العربية ذات الأغلبية المسلمة التي يقف التعارض المزعوم بين سلطة الشعب في التشريع والالتزام بما هو من الدين الإسلامي بالضرورة، حيث يمكن النص في الدستور الديمقراطي على أن تكون «مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع» وأن يحال الاختلاف حول دستورية القوانين، وفق هذا النص، على المحكمة الدستورية مثلما هو النص الراهن في المادة (2) من دستور جمهورية مصر العربية للعام 1972.
وهذه المقاربة تمنع قيام أي شكل من أشكال الحكومة الدينية، وفي الوقت نفسه تقيد المشرع دستوريا بمبادئ الشريعة الإسلامية.
وللتأكد من وجود مبدأ «الشعب مصدر السلطات» يجب التمعن في النص الدستوري وما يحيله على القوانين من صلاحيات.
فكثيرا ما يؤخذ بالقانون ما أعطاه الدستور، ويصبح الوضع القائم هو «الحكم بالقانون» بدل «حكم القانون» الذي هو مبدأ ديمقراطي ثابت.
وإلى جانب ذلك وأهم منه هو النظر إلى حقيقة الممارسة على أرض الواقع، وهل الشعب أو الكثرة منه على الأقل هو مصدر السلطات قولا وفعلا، أم أن الحاكم الفرد أوالقلة هي صاحبة السلطة والقول الفصل في الشأن العام.
اعتبار المواطنة ولا شيء غيرها مصدر الحقوق ومناط الواجبات دون تمييز. وأبرز مظاهر المواطنة الكاملة هي امتلاك المواطن الحد الأدنى من متطلبات المشاركة السياسية الفعالة ومنها مستوى معيشة كريمة والمعلومات الضرورية للمشاركة السياسية الفعالة، وكذلك تساوي الفرص من حيث المنافسة على تولي السلطة و تفويض من يتولاها. بجانب الحق المتساوي في الانتفاع بالثروة العامة وتقلد المناصب العامة التي لا يجوز لأيٍ كان أن يدعي فيها حقا خاصا دون الآخرين.
ملزم لكل مواطن، حاكما كان أو محكوما. ويتجلى التعاقد المجتمعي المتجدد في المشاركة الفاعلة لإفراد المواطنين وجماعاتهم في وضع الدستور وتعديله عبر الأجيال. وفي العادة يوضع الدستور الديمقراطي من قبل جمعية تأسيسية منتخبة تملك إرادتها وتعبر عنها بحرية.
إقرأ أيضا لـ "علي خليفة الكواري"العدد 2705 - الأحد 31 يناير 2010م الموافق 16 صفر 1431هـ