في التاسع عشر من أغسطس/ أب، والخامس والعشرين من أكتوبر/ تشرين الأول، والثامن من ديسمبر/ كانون الأول من العام الماضي أضحت بغداد مزكومة برائحة الدم. فقد خلّفت تفجيرات مزدوجة وعنيفة استهدفت مقرّات حكومية أزيد من 400 قتيل ومئات من الجرحى.
وقبل أيام سُحِلَ ستة وثلاثون عراقيا وأصيب نحو سبعين آخرين عندما قاد انتحاريون ثلاث سيارات استهدفت الأولى فندق ميريديان فلسطين، والثانية مرآب فندق بابل، والثالثة فندق الحمراء الواقع في منطقة الجادرية.
هنا، لا مجال لغير الفرز. فالمسارات ضمن هذه الأحداث متعدّدة ومتباينة، لكنها غير مُتّحدة لا في الأهداف ولا في الآليات. لذا، فإن المتوجّب هو فهم المُركّب فيها. والأكثر أهمية هو عدم إجراء أي مصالحة بين الخطأ منها وبين الصواب، لأن الاستحالة في ذلك أكيدة.
فحين يُستهدف المدنيون العراقيون نقول إن ذلك إرهابا. وحين يُستهدف الاحتلال نقول إن ذلك مقاومة. وحين تقع مثل هذه التفجيرات نقول إن الحكومة واهِنة. وحين نقول إن السياسة لا تعني الثأر من الماضي والاستئثار بالحاضر كما يجري الآن في العراق فإننا لا نزيد على ذلك حرفا.
وحين نُدرك كلّ تلك المسارات، وتعدّدها نقول: لا أحد يستطيع أن يقول بأنه ومن أجل إضعاف الاحتلال نقتل المدنيين والأبرياء. أو من أجل إضعاف الحكومة العراقية الحالية وإظهارها في موقع الضعف فلا ضير إن قَتَلنَا ألف عراقي. لأن هذه جريمة.
والمحذور في ذلك هو أننا سنُضعف (وبشكل غير مباشر) خيار مناهضة الاحتلال. وربما يُسأل ذلك الخيار ومنتسبوه الآن وفي المستقبل على «ما قالوه ولم يكن يجب أن يقولوه» وعلى «ما كان عليهم أن يقولوه ولم يقولوه» وعلى «ما فعلوه ولم يكن عليهم أن يفعلوه» وعلى «ما كان عليهم أن يفعلوه ولم يفعلوه». كما يُقال.
نحن اليوم نعِيب على الجيش الأميركي أنه أرجَعَ الفهم العسكرتاري لديه إلى ما قبل»الحروب الكُلّيّة» حين كانت الجيوش المُغِيرة تُجهِز على خصمها كيفما اتّفق، وبأي وسيلة وبأكثر الخسائر المادية والبشرية. لأنها تعتقد بأن الهزائم تخلقها الخسائر.
ونعيب عليه حين خَلَطَ بين العقيدة العسكرية والمدنية بشكل فجّ. ظَهَرَ ذلك جليا في العراق وأفغانستان. فحين يُضرَب رتْلٌ عسكري أميركي تُمشّط الأحراش ويُقتل مَنْ فيها بحجّة الملاحقة. لكن الحقيقة هي أنهم يقومون بذلك من أجل الانتقام.
لذا فإن سمعة المُجنّد الأميركي أصبحت في الحضيض. لأنه حوّل مقارعة القوة بالتماثل إلى قوة تستهدف الحلقة الأضعف في النسيج الاجتماعي (المدنيين والعُزّل) وهو ما أدّى إلى أن يخلق ذلك اهتزازا في الثقة، وبُعدا عن معيار المناقبية في التعامل مع الآخر.
لا يُمكن أن تمارس المقاومات (أو بالأحرى مُدّعيها) ما يُمارسه عدوّها بحق مَنْ هم خارج حدود الصراع. باختصار فإن الاندفاع نحو توسيع المعركة ضد «الصّامتين» هولا يُنتِج سوى جوا قلقا، بل إنه يخلق مزيدا من الأعداء وقليلا من الأصدقاء. ثم قليلا من المتعاطفين، وكثيرا من الناقِمين.
لقد شوّهت حركات الريبونمن والوايتبويز النضال الإيرلندي في السابق. وكذلك الحال جرى في إسبانيا وعدد من البُلدان الأخرى خلال مراحل الكفاح. وكانت الحصيلة في أكثر التجارب هي الفشل، وذهاب ريح النضال من الناحيتين الشرعية والصّدقية.
اليوم كلّ مُسبّبات المقاومة شرعية ما دام هناك احتلال. لكن استهداف العراقيين لا يُشرّعه أيّ قانون، ولا يقبله أيّ منطق، وإلاّ قد ننحدر إلى ما انحدرت إليه الجماعات المُسلّحة في الجزائر خلال النصف الثاني من عقد التسعينيات من القرن الماضي.
كان إسلاميو الجزائر المتطرفون داخل الجماعة الإسلامية المسلحة يقولون: النظام الجزائري هو حُكمٌ فاسد، يستند في قوّته إلى رجال السياسة والجيش والشرطة. إذا، السياسيون يجب أن يُقتلوا، ورجال الجيش أيضا والشرطة كذلك.
ثم زادوا عليه ووسّعُوا القضية، زوجات العسكريين ورجال الدرك وموظفي الخدمة المدنية بالدولة وأمهاتهم وآبائهم وأخواتهم وإخوانهم وأولادهم وأصدقاءهم هم مشمولون بحكم الموت بالتّبع.
لقد أعلنوا الحرب على ثلاثين مليون جزائري! والنتيجة 6040 عملية إرهابية، في بحر ثماني سنوات، ومئتي ألف قتيل! (راجع مقال للكاتب بتاريخ 02 إبريل/ نيسان الماضي). مثال يجب أن تُدركه الشعوب والحركات في العالمين العربي والإسلامي.
من يقومون بمثل هذه الأعمال في العراق (استهداف المدنيين) لن يستطيعوا أبدا تغيير مُؤشّر بوصلة الصراع. هم يريدون توجيهه إلى أماكن أخرى ولأهداف أخرى. وربما يزيد فعلهم شرعية بقاء المحتل، الذي يتدثّر بضعف السلم الأهلي بين العراقيين، ثم يدّعي أن بقاءه صمام أمان لبلد ممزّق.
الأكثر من ذلك، فإن وقوع مثل هذا الخلط، قد يُقوّي خيار الاحتماء بمن يرفع شعار توفير الأمن (حتى ولو كان احتلالا أو حكومة من قِبله) في قِبال عدو شَبَحِي وغير مرئي يُمكن تحميله كافّة الإخفاقات والجرائم المجهولة والمركونة دون بصمات. إنه أبسط الخيارات لدى الأنظمة، ولدى القوى المحتلّة.
ما يهمّ اليوم في العراق هو وضوح الرؤية. أن يُقال إن ذلك إرهابي وهذا مقاوم. وأن يقال بأنهما ما داما كذلك فإنهما متغايران لزاما، بل إن الأجندة أيضا تبقى مغايرة. والسياسات والآليات تُفضي إلى ذات النتيجة المتباينة بطبيعة الحال. وحين يتّضح ذلك تتهمّش القوى الإرهابية التي لا تُطوّعها شرعة من الأرض أو السماء.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 2705 - الأحد 31 يناير 2010م الموافق 16 صفر 1431هـ
تحية وتحية
الاستاذ الكريم محمد عبد الله . مقالكم واضح وفيه من التركيز ما يجعل القارئ يفهم القصد والتحليل بشكل سريع . على العموم الوضع العراقي بات هاجس اغلب الدول العربية والاسلامية وبالخصوص الذين كانوا يطبلون للاحتلال نراهم اليوم مترددين وعليهم الحياء باد
متى ستتوقف القوى الإرهابية عن التفجيرات وسفك الدماء الطاهرة ؟
عن الإمام الباقر عليه السلام: ( يزجر الناس قبل قيام القائم عن معاصيهم بنار تظهر لهم في السماء وحمرة تجلل السماء وخسف ببغداد وخسف ببلدة البصرة ودماء تسفك بها وخراب دورها وفناء يقع في أهلها وشمول أهل العراق خوف لا يكون معه قرار) والخسف كناية عن التفجيرات العنيفة والدمار الذي تتركه وحالة الذهول والهلع التي تصيب الناس من الخسائر البشرية .. مرت سنوات طويلة والعراق يئن من الفتن والإرهاب وفقد الملايين من الناس حياتهم وانشا الله يكون الفرج قريب . ام محمود