لا شك أن الموقف الأخير للرئيس معمر القذافي بإعلان التوبة فجأة من بدون مقدمات بالكشف عن ما قامت به جماهيريته الشعبية العظمى في مجال تطوير برنامجها النووي دون أن يطلب منها ذلك قد زاد موقف سورية وإيران تعقيدا، وخصوصا أن هذا المثلث الإيراني السوري الليبي كان بينه نوع من التعاون، ودعوة القذافي هذه الدول بالتخلي عن برنامجها النووي لتثبت ليبيا طهارتها وتوبتها وندمها بأثر رجعي قد زاد المسألة تعقيدا وحرجا لسورية وربما تَمكُن الولايات المتحدة من تليين موقف بيانج يونج بعد إعلانها الجديد عن استعدادها التخلي عن برنامجها النووي وبجدية أكبر هذه المرة ما يضيف حرجا لسورية وإيران، والذي يزيد الموقف تعقيدا بالنسبة لسورية بوجه خاص اليوم هو الغزل الأميركي الجديد لطهران الذي حدث في أعقاب زلزال (بم) واتخذ أشكالا مختلفة من خلال تصريحات المسئولين في البلدين، على رغم تصريحات إيران بأنها لن تتخلى عن سورية.
والمشكلة الكبرى تكمن في أنه لا وجود لحليف تعتمد عليه سورية وكما قال المحلل السياسي غسان شريل (إن موسكو بوتين لا تستطيع توفير مظلة، ولا تجييش دعم دبلوماسي ولا تصلح لمحطة انتظار لتحسين شروط التحاور مع واشنطن. وتدرك دمشق أن العلاقة مع باريس لا توفر مظلة ولا تشكل بديلا). وفي اعتقادي أن الدول الأوروبية وإن رغبت في إلقاء حبل النجاة لانقاذ سورية فهي الأخرى غير قادرة خوفا من غضب سيد البيت الأبيض وخصوصا بعد أن تمكنت الولايات المتحدة وبريطانيا من تحقيق حلمهما في غزو العراق والانتصار الاخير إخراج صدام من جحره الذي اختبأ فيه دون مساعدة الأوروبيين، ثم إن تهديدات كلب الحراسة الأميركي في الشرق الأوسط بغزو سورية إذ صارت «إسرائيل» تهدد من تشاء وكيف تشاء ومتى تشاء بسبب عدم المعارضة الأميركية لأية خطوة تخطوها من دون مراجعة البيت الأبيض خاصة في غياب الرأي العام العالمي واحتضار الأمم المتحدة، لكن سورية بسبب رباطة جأشها وإدراكها بأن حليفها حزب الله التي تخاف «إسرائيل» التورط معه أكثر من خوفها من شن أي عدوان على سورية لأن جيشها أصبح كبقية الجيوش العربية خبرتها مقتصرة على مواجهة الداخل أكثر من المواجهة مع الخارج.
غير أن سورية على رغم كل هذه الحلقات التي صارت تضيق عليها إلا أن رباطة جأشها التي لم تجعلها تنهار كما ذكرت أدركت أن تلعبها بشكل صحيح مع أميركا المحتارة في كيفية مواجهة المقاومة العراقية التي تزداد ضراوة مع كل محطة تظنها (فُرجَت) وكان آخرها اعتقال صدام الذي ظنت أنها آخر المحطات وتتوقف المقاومة وتنتهي (الصدعة).
إن زيارة الأسد إلى تركيا وفي هذه المرحلة بالذات جاءت لتكون طوق نجاة وخصوصا أن سورية لم تتحدث عن النهب التركي لأراضيها ولا عن مشكلات الحدود والسدود، بعدم فتحها أي ملف قديم والتركيز على ما هو آت والعزف على الوتر الحساس بالنسبة لتركيا وهو التضامن معها في عدم تجزئة العراق الذي هو مطلب مصيري لكل الخفافيش العربية التي انعقد لسانها بسبب «بلاويها» الداخلية مع شعوبها وهي ترتعد من زئير الأسد الأميركي الذي أرعبهم وصاروا يحاولون تحسين علاقاتهم بمحاولتهم المصالحة مع الداخل بكل ما في ذلك من أثقال وتهديد لمصالحهم التي قد تنكمش فالذين تعودوا على نهب ثروة الأمة يصعب عليهم ويزعجهم رؤية مدققي الحسابات ومحققي المجالس النيابية لأنهم كانوا ينطلقون في حكمهم الشمولي من منطق «أنت ومالك لحكامك» بعد أن زيفوا حديث الرسول (ص) الذي يقول «أنت ومالك لأبيك».
إن الهم المشترك بين تركيا وسورية وإيران هو الذي يساعد على تعميق العلاقة بين هذه الدول الثلاث وهو الخوف من تمزيق العراق ليصبح للأكراد دولتهم المستقلة وقد اختارت سورية الوقت المناسب في التحاور مع تركيا إذ إن الحكومة التركية الإسلامية الجديدة قد باءت كل توسلاتها ومحاولاتها بالفشل للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي على رغم أنها حاولت أن تحسن من وجهها الديمقراطي لكن أوروبا والولايات المتحدة حين (تطنش) عن سماع التوسلات التركية بقبولها في هذا الاتحاد يأتي ذلك من منطلق إدراكها العميق أن الجذور الإسلامية بدأت تقوى في تركيا وأن الأحزاب الإسلامية التي قد تصل إلى الحكم فيما بعد ستكون أكثر تشددا من الحكومة الحالية ولهذا لا تود أن تغامر بقبولها وهذا ما جعل تركيا تشعر بكثير من الغضب لهذا الموقف ما يجعلها تحاول الثأر لكرامتها وخير وسيلة للانتقام هو توثيق العلاقة مع سوريا وإشعار «إسرائيل» والولايات المتحدة الاميركية بأنها يمكن فك ارتباطها مع «إسرائيل» خاصة بعد أن اتضحت لها الصورة أن علاقتها مع «إسرائيل» لن تجلب لها سوى المزيد من حقد الإسلاميين خصوصا وأن لهم يدا طويلة قادرة على هز كيان الحكومة التركية إذ يكفيها عداء اليسار التركي والأكراد لتشتري من (حلالها علة) جديدة وهي العداء الإسلامي، ومن هنا جاء الترحيب التركي ببشار الأسد خصوصا وأن الولايات المتحدة رغم كل إغراءاتها المادية لقبول تركيا بإدخال جيشها ليصبح ضحية بدل من أن يبقى المارينز وحدهم هدفا للصياد العراقي الذي أثبت شطارته أكثر من الصياد الأفغاني.
إن «إسرائيل» حسب اعتقادي لا تريد إغضاب تركيا وتخاف من فقدان العلاقة معها ومن هنا فإن قبول تركيا الوساطة بين سورية وإسرائيل وبشكل جاد يمكن أن تقلب الموازين خصوصا وأن بعض أعضاء الكونجرس صاروا يشعرون بأن «إسرائيل» تهين الولايات المتحدة بالخروج السافر عليها والتحدي الذي أحرج الإدارة الأميركية، فالطغيان الإسرائيلي المتزايد والاعتماد اللامحدود على اللوبي الإسرائيلي والاستمرار في إحراج الولايات المتحدة ما جرح الكرامة الأميركية قد يجعل الله في ذلك فرجا ما يدفع بأية حكومة جديدة إن جاءت إلى قمة البيت الأبيض أن تخفف من حدة دعمها خصوصا وأن صحوة جديدة بدأت تظهر لدى الشعب الاميركي بعد غزو العراق وارتفاع عدد الضحايا، ومن يدري فربما يأتي الفرج من حيث لا نحتسب من منطلق (إشتدي يا أزمة تنفرجي) خصوصا بعد أن عرف كيف يلعبها بشكل صحيح رئيس الوزراء الفلسطيني الجديد أبو علاء عندما رمى بالكرة في ملعب شارون بموافقته على دولة ثنائية القومية وهو ما يرعب «إسرائيل» ويعيدها إلى طاولة المفاوضات، لكن هل العناصر القيادية الفلسطينية التي تتآمر على نفسها وعلى شعبها وفي مقدمتهم ياسر عرفات سيتركون أبو علاء ليستمر في ضغطه على «إسرائيل» لتقبل بأهون الشرين بالنسبة لها وهو خريطة الطريق الأميركية؟.
المهم أن ما دعا إليه المسئول التركي عن ضرورة إقامة اجتماع الطولة المستديرة تضم الدول المجاورة للعراق فرصة لخلق كتلة جديدة تُحجّم رغبة الولايات المتحدة أو تؤجلها إن لم تصرف النظر عنها فإن الاتحاد الفيدرالي الذي يدعو إليه الأكراد في العراق والذي يحظى بدعم أميركي لا يكتب له النجاح وخصوصا أن تركيا يستحيل أن توافق على ذلك مهما بلغ من حجم تضحياتها.
وما أكده سعود الفيصل وزير الخارجية السعودي قبل أيام بأن تجزئة العراق يهدد أمن المملكة وهذا يعني أن التحالف الرافض لتجزئة العراق بدأ يكبر ليضم تركيا وإيران وسوريا إلى جانب المملكة العربية السعودية، وإذا أضفنا إليهم غالبية الشعب العراقي الرافض للتجزئة وإدراكها بخطورة ضم كركوك للأكراد يعني أن التحالف المضاد للرغبة الأميركية الكردية سيشتد، ما لا يترك للقيادة الأميركية متسعا للمناورة.
والجديد الذي سيزيد في إرباك الولايات المتحدة الأميركية هو دخول مصر على الخط فجأة والتصالح الوشيك مع إيران ما قد يصب لصالح هذا التكتل الجديد خاصة وأنها كدولة عربية يهمها إبقاء العراق موحدا.
إن الأحداث تتسارع وجبهة رفض تفتيت العراق كما يبدو في اتساع ودول الشرق الأوسط العربية أو غير العربية أدركت أن فتح الباب لتغيير خارطتها من قبل الولايات المتحدة يشكل خطرا عليها ولإحساس كل منها بأن الدور قد يأتي عليها، لهذا بدأت بلدان هذه المنطقة تصحح مساراتها وتحاول التفاهم فيما بينها بالتخلص من أسباب الخلافات التي لا تصب لصالحها بشكل عام، فدمشق التقت مع أنقرة من خلال تجاهل وتجميد خلافات الماضي والتطلع إلى نقط اللقاء وكانت النقطة الأساسية هي عدم خلق دولة كرديّة وبقاء العراق موحدا.
وإيران وجدت أن مصر كدولة لها ثقلها لا يجب أن تبقى على خلاف معها من أجل اسم شارع أو أمور بسيطة أخرى فتم إنهاء هذا الخلاف وتغيير اسم الشارع، وأدركت مصر الدخل الكبير للسياحة من المزارات الشيعية إذا أعادت مصر الحياة لمدينة الفاطميين وقد بدأت في ذلك، ولهذا نظرت إلى المستقبل وتناست الماضي. ورأت المملكة العربية السعودية أن لا تبقى معزولة إرضاء لخاطر الإدارة الأميركية التي لن تشبع من التنازلات فبدأت بالحوار الوطني في الداخل وأعلنت على المكشوف وعلى لسان وزير خارجيتها أن تقسيم العراق سيضر بمصالحها، وأدركت تركيا أنها تلتقي مع إيران في نقطة مهمة لهذا جمدت الخلافات السابقة وبحثت عن نقطة التقاء وهي عدم ظهور دولة كردية مجتزأة من العراق على حدودهما.
فهل نحن على أبواب مرحلة جديدة تنقذ سورية من مأزقها خاصة وأن «إسرائيل» أدركت بأن جبهة الرافضين لأسلوب شارون والقيادة المتطرفة تجاه الشعب الفلسطيني باتساع عالميا وأوسطيا وكان لنجاح حزب إسلامي لقيادة تركيا ما أضعف موقفها وجعلها تعلن عن رغبتها في العودة إلى طاولة المفاوضات للتحاور بشأن الجولان المحتلة مع دمشق من جديد.
وعلى رغم من أن كل المؤشرات تؤكد على أنه ليس في المنطقة من يسعى إلى المواجهة مع واشنطن، فالدول المعنية تسعى في مصالحة أميركا لا في تحدّيها على حد تعبير الباحث البريطاني باتريك سيل في الوقت الذي لا يمكنها التساهل في وحدة العراق... فإلى أي مدى يستطيع التحالف الجديد أن يفرض إرادته مع عدم إغضاب الولايات المتحدة؟ ثم إلى أي مدى يفرض هذا التحالف متسعا لسورية بالخروج من مأزقها الجديد ووضع حد للتهديدات الإسرائيلية والأميركية لها بعد أن أصبحت حكومة دمشق تحاول إبداء المرونة مع واشنطن؟
إن القذافي رفيق الأمس مع كل من إيران وسورية المطلع على أسرارهما هل ستدفع به تنازلاته أن يقدم كل ما لديه من أسرار للولايات المتحدة الأميركية ما قد يفتح على دمشق نافذة جديدة للإحراج بعد أن كادت تخرج من مأزقها؟ سؤال يطرح نفسه على السد الليبي الذي انهار، وما أصدق قول الشاعر:
احذر عدوك مرّة
واحذر صديقك ألف مرهْ
فلربما انقلب الصديق
وصار أعرف بالمضرهْ
العدد 497 - الخميس 15 يناير 2004م الموافق 22 ذي القعدة 1424هـ