حين اتخذت الحكومة الفرنسية قرارها كانت تدرك تماما انه لن يمر من دون ردود فعل فرنسية وأوروبية وعربية ودولية. والحكومة حين غامرت بالقرار كانت أمام سلسلة خيارات، ومالت في الأخير الى الاستجابة الى ضغوط محلية تعطيها قوة سياسية وانتخابية في معارك مقبلة يرجح ان تكون صعبة في وقت يعاني اليسار الفرنسي من أزمة تاريخية ويشهد اليمين العنصري بعض النمو الشعبي الذي يهدد تيار الوسط بالانقسام والتبعثر في حال لم يتحرك لاستيعاب التحولات المتطرفة التي يشهدها المجتمع.
مسألة الحجاب في فرنسا ليست جديدة وهي تتداعى سياسيا منذ ثمانينات القرن الماضي. والرئيس جاك شيراك ربما ظن ان الوقت مناسب الآن لاحتواء المشكلة في فترة تمر العلاقات الفرنسية - العربية في لحظة ارتخاء نظرا الى مواقف باريس المبدئية واعتراضها على الحرب على العراق ومطالبتها واشنطن بسياسة دولية عادلة تقوم على التعددية ورفض هيمنة قطب واحد.
الرئيس وجد ان هذه فرصة لتطوير المصالحة مع العرب ونقلها من السياسي المتغير الى الثقافي الثابت... إلا ان المسألة ليست كذلك فهي في بعدها الديني تمس هوية تاريخية من الصعب التعامل معها بقوانين فوقية تقفز فوق الزمن والجغرافيا ولا تعطي للأجيال المقبلة فرصة تقرير مصيرها في الاندماج والتكيف او الحق في الاختلاف.
مشكلة شيراك الثقافية مع الجاليات الدينية في فرنسا تشبه مشكلته السياسية مع جورج بوش. فالأخير يرفض مطالبة الرئيس الفرنسي بالتعدد الدولي وعالم متنوع الاقطاب سياسيا، كذلك الجاليات تطالب بالتنوع الثقافي والتعدد الديني واطلاق خيارات مختلفة لحرية الإنسان في وقت تتجه الدولة نحو الدمج القسري الذي لا يتحمل الاختلاف الديني في تعبيراته وسلوكياته الاجتماعية والثقافية.
هناك مشكلة بين فرنسا والحجاب وهي ليست جديدة... وحلها ليس بالضرورة عن طريق العلمانية، فالحل العلماني لا يمكن عزله عن السياسة والتاريخ، وكذلك لا يمكن تصور نجاحه من دون ديمقراطية تضمن لمختلف فئات المجتمع التعبير عن نفسها بأشكال ليست موحدة قلبا وقالبا بالضرورة.
القوانين عادة تأتي استجابة لتوازن المصالح الداخلية وهي ليست مجرد مواد يتم الاتفاق عليها في الغرف البرلمانية، فالبرلمان هو نتاج تسوية تاريخية ولا يمكن له ان يعكس التنوع في حال منعت الاقليات من التعبير عن نفسها سياسيا وثقافيا في إطار التعايش الذي يضمن الأمن الوطني.
المسألة إذا أبعد من موضوع الحجاب. والحجاب لا يمكن ان يعطل وحدة المجتمع وانسجامه في حال اتفق على ان الحرية لا تقسم ولا توزع، بل هي من الحقوق الشرعية التي يجب التكيف معها ضمن صيغة الاحترام المتبادل.
الخطورة في موضوع الحجاب انه يفتح الباب أمام عنصرية متوحشة تبدأ بمسألة ولا تنتهي إلا بسلسلة من التنازلات قد تقوض في النهاية الأسس التاريخية لدولة «الجمهورية العلمانية». فالعنصرية عنصرية، ومن يكره المسلمة بسبب حجابها فإنه ربما يكرهها ايضا بسبب دينها، ولونها، وطولها، وعرضها الى آخر «الكراهيات» التي لا تتوقف عند حد. فمن يطالب بمنع الحجاب اليوم ويجد الاستجابة الفورية من الحكومة والبرلمان... ربما يطالب غدا بالمزيد من القوانين التي تهدف الى ضبط الانسجام الثقافي ولكنها تقصد في النهاية عزل فئة من المجتمع ومنعها من التكيف والانسجام مع الشرائح والألوان المختلفة التي يتكون منها الشعب.
الدولة في هذا المعنى يجب ان تكون محايدة وإذا انحازت فعليها تدارك الانزلاق من ضمان وحدة الدولة الى فرض الوحدة القسرية على المجتمع باسم القانون. فالقانون وظيفته ضمان الحرية لا تعطيلها. وهذا هو بالضبط الفارق بين فكرة فصل الدين عن الدولة وبين إلقاء الدولة القبض على الدين باسم القانون.
هيمنة الدولة على الدين في فرنسا مسألة ليست جديدة ايضا فهي ترتبط أصلا بمبادئ الجمهورية التي انطلقت عنفيا بعد الثورة وربطت العلمانية بالدولة وأعطت صلاحيات للقانون باجتثاث كل مخالف لها. وفي هذا السياق تختلف العلمانية الفرنسية عن العلمانيتين الأميركية والبريطانية. فالأولى توحيدية تعتمد على المدرسة الحكومية كأساس لإعادة تأسيس شخصية الطفل وإعداده ليكون منسجما مع فكرة المواطن (الفرنسي). والثانية علمانية تعددية تعتبر المدرسة هيئة للتدريس والتربية والتدريب على التفكير الحر وليست مسئولة عن صوغ شخصية الطفل وإعداده كمواطن ينسجم مع فكر الدولة وثقافة الجماعة.
مشكلة فرنسا إذا مع الحجاب معقدة فهي ليست معركة مع «قطعة قماش» كما يقال، وانما هي تنطلق أساسا من مبادئ ايديولوجية تأسست عليها «الجمهورية العلمانية». وهذا النوع العلماني يعتمد مبدأ التوحيد والدمج ولا يعترف بالتعدد الثقافي لأنه يرى فيه بداية تهديد للشخصية الوطنية الفرنسية.
المعركة إذا سياسية - ثقافية تنطلق من خلفيات ايديولوجية من الصعب كسرها قبل كسر العنصرية. وبما ان معركة شيراك مع التيار العنصري صعبة وطويلة فقد لجأ الرئيس الفرنسي الى الحل الأسهل: مكافحة الحجاب بدلا من مكافحة العنصرية
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 496 - الأربعاء 14 يناير 2004م الموافق 21 ذي القعدة 1424هـ