منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تعرض الكثير من الأنظمة السياسية في الشرق الأوسط لموجات من التغيير التي قضت إلى حد بعيد على عقود من الاستقرار للنظام السياسي العربي الذي أنشئ مع بدايات الحرب العالمية الأولى. ويبدو أن نشوب الصراع العربي الإسرائيلي في العام ،8491 وما نجم عنه من عسكرة التغيرات السياسية في مصر العام 2591 وتأثيراتها الإقليمية الواسعة، بالإضافة إلى الحرب العربية الإسرائيلية في يونيو/ حزيران ،7691 أدت جميعها إلى تأجيج الغليان السياسي الذي اجتاح العالم العربي ومنطقة الخليج. وظهرت الموجة الثالثة من التغيير مع حرب الخليج العام 0991 - 1991 التي أعقبت الغزو العراقي للكويت وقد أفضت إلى إحلال حقائق سياسية محل الأفكار الأيديولوجية. كما حدث شرخ عميق في الخريطة السياسية وفي طبيعة الأنظمة العربية أدى ولأول مرة إلى فرض موضوعات تتعلق بالديمقراطية والتعددية وحقوق الإنسان وارتباطها بموضوعات السلم والحرب. وهكذا فإن أوهام الاستقرار أوجدت وعيا جديدا فيما يتعلق بالتغيرات الحتمية التي ألقت بظلالها ليس فقط على النخبة الحاكمة ولكن أيضا على كل المجتمعات العربية بصورة عامة. وإذا قلنا ان هناك أرضية مشتركة فحقيقة الأمر أن توافقا وطنيا قد بدأ في البروز وأدى إلى إيجاد إصلاح سياسي وتحديث في الأنظمة والمجتمعات العربية. وفي مقابل ذلك تمخضت حوادث 11 سبتمبر/ أيلول 1002 المأسوية عن زخم جديد ليكثف عملية التغيير ويعجل بها فقد امتدت الخريطة الدولية في أعقاب 11 سبتمبر بآليات الإصلاح، التي كانت مقتصرة على النخبة في العالم العربي إلى آفاق أوسع في الثقافة والتربية والنظام القيمي والوعي السياسي. إن النظام السياسي الذي ساد لعقود سبقت 11 سبتمبر بالإمكان المحافظة عليه وحمايته فقط من خلال إحداث عمليات واسعة ذات معنى في شكل ومحتوى النظام السياسي العربي. وقد شهدت السنوات الأخيرة اعترافا متناميا في مختلف دول العالم العربي بالحاجة إلى التغيير الديمقراطي وتوسيع المشاركة الشعبية في الحكومات، بالإضافة إلى ظهور حكومات ذات تمثيل شعبي، وهذا في حد ذاته يعتبر حدثا إيجابيا، وإن كانت هناك أسباب عملية لهذا التوجه. مع نهاية الحرب الباردة وزوال الأيديولوجيات الرائجة في العقود الماضية فإن الحكومات والشعوب أصبحت اليوم تتمتع بالحرية لتجريب الأنظمة في الحكومة الممثلة بحسب مميزات كل دولة، على رغم أن تأثيرها على العالم العربي محدود إلى حد ما، إذ اصطدمت النخبة الحاكمة بالتغيرات في خريطة العالم وبالذات بانهيار الاتحاد السوفياتي وبالكتلة الشرقية بكاملها. بالإضافة إلى ذلك، وما تعكسه مختلف الأسباب الداخلية والخارجية، فإن الراديكالية نمت في الحركة الإسلامية وهمشت الاتجاه المعتدل فيها. وفي الوقت ذاته هناك ضغوط محلية مورست بالإضافة إلى تدخلات من الخارج وكان لها كلها تأثيرها في السير نحو انتهاج الإصلاحات. إن الاطراد السريع في النمو السكاني مقابل انخفاض نسبة الإيرادات النفطية، أجبر على إعادة النظر في كيفية توفير القطاع الحكومي للوظائف طويلة الأمد لأكثر عدد من مواطنيها، والاعتراف بأن القطاع الخاص العريض وزيادة الاستثمارات الخارجية هما الحل الأمثل لملء ثغرة التوظيف. إن الاستقرار والقيم النبيلة مثل الشفافية والصدقية تعد اليوم من العوامل الأساسية لجذب الاستثمار وإنعاش الأعمال التجارية، وكذلك القيم الأساسية لتوسيع وزيادة الطبقة الوسطى المتعلمة وهي التي توفر الشرعية للمقومات التي كرست نفسها لتوفير الوظائف مدى الحياة لمواطنيها اعتمادا على الطريقة الأبوية. وبالإضافة إلى هذا، فإن التحركات الحقيقية والشاملة تجاه المشاركة الشعبية في الحكومة قد تم النظر إليها كأمر حيوي لإزالة التهديد الناشئ عن "المتطرفين" بإعطاء المواطنين دورا حقيقيا في المؤسسات الحكومية وفي تقوية الرأي المدني والمسئول في المجتمع كافة. فالضغوط الداعية إلى الإصلاحات الديمقراطية كانت من الأعلى إلى الأسفل ومن الأسفل إلى الأعلى. ولقد أقرت الحكومات والمحكومون على السواء بالحاجة إلى الإصلاحات، وهناك درجة كبيرة من الاتفاق على شكل وجوهر مثل هذا التغيير.
أنظمة ومؤسسات التغيير الديمقراطي
إن المفهوم الأساسي عن أية دراسة تتعلق بالتغيير الديمقراطي في الشرق الأوسط يجب أن ينصب على النظام السياسي. وفي مثل هذه المنطقة الحيوية استراتيجيا يعد النظام السياسي ذا أهمية قصوى لشعوب المنطقة وكذلك للعالم الأرحب من حولها. وكان هذا يمثل تحديا دائما لتعزيز ديناميكية التغيير والحفاظ في الوقت ذاته على الاستقرار المحلي بدرجة كبيرة. ولقد بين التاريخ بوضوح أن الديمقراطيات الأكثر استقرارا وديمومة هي تلك التي تستند إلى أسس قوية، والتي تتصف بشموليتها وبقيم واستقرار مؤسساتها، وهذا يعتمد بصورة واضحة على الثقافة الغنية للتنوير والوعي السياسي. إن العملية السريعة لتصفية الاستعمار في النصف الثاني من القرن العشرين قد جاءت بأمثلة لا حصر لها في أرجاء العالم بخطورة الديمقراطيات السريعة التي وجدت من فراغ من دون ركائز مؤسسية وإجرائية وبنائية ضرورية. لذلك فإن الاستمرار في هذه التحولات الديناميكية الجديدة لم يجر على وتيرة واحدة في الأقطار العربية. إذ إن بعض الاستجابات كانت إيجابية بصورة مرضية وبعضها الآخر كان أقل حظا في هذا المجال إذ صاحب تلك التغييرات اندلاع أعمال عنف أحيانا من جانب القوى التقليدية الاجتماعية السياسية المحافظة. وفي بعض الدول فإن القيادة على رغم إدراكها ديناميكية التغيير، إلا أن الرؤية الواضحة تنقصها لقياس ذلك التغيير، وبمعنى آخر فإن هذه الدول قد فاتها البناء التدريجي لعملية قيام المؤسسات السياسية.
* كلمة وزير الدولة للشئون الخارجية في مؤتمر الحوار الإسلامي الأميركي المنعقد في الدوحة "01 - 21 يناير/ كانون الثاني 4002
العدد 493 - الأحد 11 يناير 2004م الموافق 18 ذي القعدة 1424هـ