هو منظر تقشعر له الأبدان، وتنهل له العيون بدل الدموع دما. منظر يجعل المرء يتساءل في نفسه مرارا وتكرارا عن معنى الإنسانية، وإلى أي حد وصلت، ويتركه في حيرة من أمره، ولكن من دون إجابات... المشهد الأول يبدأ مع المدخل الرئيسي لمستشفى السلمانية الطبي، وتكتمل صوره مع دخول الجناح رقم 11.
هناك وعند غرف المرضى من الأطفال، يأخذك صوت غير طبيعي، فكل الغرف هادئة تقريبا آخذين في الاعتبار بعض الصريخ الذي سرعان ما يختفي، إنه ليس صريخا، وليس كلاما ولا أي شيء من هذا القبيل، هو صوت أشبه بالأنين الصادر من رجل بلغ أشده، ولكن عندما تخطف نظرة على مصدره فلن تصدق عينيك.
السرير الكبير، حمل بين جنبيه طفلا لا تكاد تراه العين، جلد على عظم ليس إلا، الآلات تلهو وتلعب مضيفة لصوته شجوا لا يحتمله القلب... الغريب في الأمر أن الممرضات يقلن أن الطفل يبلغ من العمر أربع سنوات، والأدهى والأغرب أن والداه لم يأتيا لزيارته منذ أن أدخلاه المستشفى أول مرة! لن تستمر في النظر حالما يرمقك الطفل بعينين تحمل في طياتها تساؤلات عدة، ولكن سرعان ما يعود لحالته الأولى متناسيا وجود شخص آخر في الغرفة، فلطالما اعتاد على هذا الحال.
هنا تتوقف ساعات الزمن للحظات، ويرجع المرء في نفسه ونتساءل عن الإنسانية وإلى أي حد وصلت في مجتمعنا، فهل يعني وجود طفل معوق أو حتى يتوقع الموت لحظة بعد أخرى تركه من دون زيارة واحدة حتى؟ أو أن المكوث معه يسبب حرجا في عين والدته التي ترى بقية النساء يداعبن ويهدئن من روع أطفالهن المرضى، هل نسيت الأم أنها حملت هذا الطفل في أحشائها تسعة أشهر؟. وهل يظن الأب أنه سيذهب بفعلته، أليس هذا الطفل أمانة في عنقه حتى يسترجع الله أمانته من عنده؟ ومن يدري لربما كان ما يعانيه الطفل هو خطأ اقترفه الأبوان بصورة أو بأخرى.
لقد سمعنا بعقوق الأبناء لآبائهم، ولكن لم نسمع عن أب ترك ابنه بعد سنين في مستشفى وتناساه، وإذا كنا نستغرب من وأد البنات في الجاهلية وقتل الأبناء فإن حال هذا الطفل كفيلة بأن تجعل من كان في الجاهلية أفضل حالا منا.
المعروف أن الحيوانات لا تتخلى عن أطفالها حتى لو كان أحدهم معاقا، بل إن الأم تهتم بطفلها المعوق أكثر من بقية الأبناء. فهل وصلنا لحال تكون الحيوانات أكثر شفقة منا؟ أم أن هذا يعد مظهرا جديدا من مظاهر الحضارة بصورتها الحديثة؟
إقرأ أيضا لـ "عبدالله الملا"العدد 493 - الأحد 11 يناير 2004م الموافق 18 ذي القعدة 1424هـ