لكل بلد ذاكرته التاريخية، وهذه الذاكرة قد تكون مكتوبة (فتصبح تاريخا ثابتا)، وقد تكون شفوية (وهي بذلك معرضة للزوال مع اختلال الذاكرة الانسانية للافراد). ولذلك فان بعض قادة النضال والمؤثرين في الحياة العامة يلجأون الى حفظ الذاكرة من خلال كتابتها.
هناك مشكلة تلازم كتابة المذكرات وهي الاعتقاد المفرط لبعض من يكتب مذكراته انه كان «مركزا» لكل شيء كان يدور في الفترة التي يكتب عنها، وهذه «الذاتية» تدفع باتجاهات غير سليمة بالنسبة إلى كتابة التاريخ. ذلك أن الذاتية تدفع نحو تبجيل الذات وطلب المجد حتى لو ان الحقيقة لم تذكر كاملة، وهو ما يصطدم مع تحذير قرآني نصت عليه الآية الكريمة «لا تحسبن الذين يفرحون بما اتوا ويحبون ان يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم» (آل عمران / 188).
تجربة كتابة المذكرات البحرينية في الخمسينات لم تكن جيدة على رغم أهمية ما كتب كمادة للدراسة والتمحيص. فليس كل ماكتبه المستشار تشارلز بلغريف (مثلا) عن المرحوم المناضل عبد الرحمن الباكر، او المرحوم الشيخ خلف العصفور صحيحا، بل انه نابع من عداء شخصي لهما. كما ان تجاهل بلغريف لقضايا وحوادث واسماء لم ينفعه كثيرا لان هناك توثيقات اخرى للحوادث. والحال مشابهة ايضا للمرحوم الباكر الذي كتب أمورا كثيرا بدافع الالم وربما ان ماكتبه كان بحاجة الى مراجعة قبل النشر لازالة بعض الجوانب الشخصية.
وعليه فلربما ان الأفضل للكساد المخيم حاليا على سوق كتابة المذكرات الشخصية ان يبقى مخيما على بلدنا؛ لأن البلدان التي تنتعش فيها هذه السوق تلاقي الكثير من المتاعب، والضحية في ذلك هو التاريخ الذي من المفترض ان يستفيد من ذكر حوادث مرتبطة بحياة الكاتب والناس.
في بريطانيا (مثلا) تمتلئ المكتبات بالمذكرات الشخصية وهي مادة للدراسة (والتندر في كثير من الأحيان). فرئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارغريت ثاتشر لديها مذكرات ضخمة جدا، وحياتها تستحق الدراسة لأنها غيّرت الحياة العامة في بريطانيا. ولكن ثاتشر ليست من النوع الذي يود المرء ذكره دائما. فقد كان يسميها الشعب البريطاني «المرأة الحديدية» لصلابتها في اتخاذ القرارات الصعبة، ولتكسيرها رؤوس النقابات العمالية، وانتصارها على حزب العمال طوال سنوات الثمانينات، وتغييرها لهيكلية الاقتصاد البريطاني.
ثاتشر (المهمة جدا سابقا) أصبحت لاحقا «المرأة البلاستيكية»، بمعنى أنها أصبحت أنانية ومن دون مشاعر، ولا يهمها أي شيء بعد أن فقدت زعامة حزب المحافظين ورئاسة الوزراء. بل انها أزعجت وأسقطت من جاء بعدها لقيادة حزب المحافظين واحدا بعد الآخر، واتعبت حزبها (وهذا احد الاسباب الرئيسية لفشل المحافظين منذ العام 1997). كل ذلك لاعتقادها بأنها الشخص العظيم الوحيد الأوحد، وأن أي شخص غيرها يجب أن يكون ظلها الذي يأتمر بأمرها على رغم أنها لم تعد امرأة حديدية بعد خروجها من رئاسة الوزراء وزعامة الحزب ومن الحياة العامة.
تورط بعدها «جون ميجور» بزعامة حزب المحافظين ورئاسة الوزراء، وانشغلت ثاتشر ليل نهار بالتحريض ضده حتى ساهمت بشكل مباشر في اسقاطه لاحقا. ثاتشر نشرت مذكراتها واغفلت الكثير. وميجور كتب مذكراته واغفل الكثير، بعده جاءت وزيرة من حزب المحافظين (اسمها «إيدوينا كاري»)، وكتبت صورة أخرى عن ميجور الذي كان البريطانيون يعتقدون بنظافته من كل جانب قبل أن تقرر تلك الوزيرة التحدث عنه بما يخفى عن الآخرين، وتصعق البريطانيين بصورة لم يكونوا يعرفونها عن ميجور.
لعل بلدا مثل بريطانيا يتحمل كل تلك الهزات التي يتسبب بها كاتبو المذكرات لأنفسهم ولغيرهم، ولكن بلدنا ربما لا يتحمل ذلك. فالعادات والتقاليد تمنع الكثير من الممارسات الموجودة في بلدان أخرى، والمصلحة العامة ربما تقتضي عدم تنشيط الردود على ما يكتب هنا أو هناك. فالزمن كفيل بتصحيح الأخطاء ومحاولات تجيير الذاكرة لشيء ما يدور في رأس كاتب هذه المذكرات أو تلك
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 491 - الجمعة 09 يناير 2004م الموافق 16 ذي القعدة 1424هـ