عدة أسئلة ترد إلى ذهن المواطن العربي هذه الأيام بالذات إذ تمر الأمة بأضعف حلقاتها وأكثر مراحلها إحباطا حتى يكاد يضيع وسط المؤامرات الدولية عليها ومن خلال علاقاتها المتوترة مع أنظمتها التي في معظمها تتمادى في مواصلة إبعاد الشعوب عن المشاركة في القرار السياسي بحيث أضعف الأنظمة غير المدعومة من الشعوب مثلما أضعف الشعوب ذاتها غير المتفاهمة مع أنظمتها.
لكن هجمة جديدة من نوع آخر بدأت تظهر في الساحة العربية وهي محاولة التشكيك في رموز قيادية كان لبعضها مكانتها في نفوس شعوبها في مرحلة تاريخية معينة وبعضها في نفوس الأمة كلها، وبدأت مجلات وصحف عربية وأوروبية تتسابق في محاولة تشويه هؤلاء. من هنا تبرز بعض الأسئلة المحورية منها: هل ما يطرحه هؤلاء حقائق أم أكاذيب؟ وهل من مصلحة الكتاب والمفكرين العرب فتح الجروح الآن؟ ثم لماذا الآن بالذات، بمعنى لماذا لم تكشف هذه الحقائق من قبل؟ ألا يمكن أن تكون هذه الصور وهذه الأختام وهذه الخطوط وهذه الاتفاقات كلها مزورة وخصوصا أن أصحابها رحلوا قبل أكثر من نصف قرن؟
ما دفعني إلى كتابة هذا المقال هو ذلك الكم من الهجوم الذي أراه منصبا على كثير من رموز كان الكثيرون يؤمنون بنزاهتها ممن برزوا في القرن الماضي، ثم لأننا وجدنا في السابق تشويه عناصر فكرية ودينية كثيرة مثلما يجري اليوم مع السياسيين. ألم يقولوا عن الشيخ جمال الدين الأفغاني وهو من الشخصيات الدينية التي كانت وراء التحريك الشعبي ضد الاستعمار الأوروبي في الشرق العربي والشيخ محمد عبده وغيرهم، خصوصا بعد وفاتهم بأنهم كانوا ماسونيين؟
ومن بين الكتاب الذين يحاولون تشويه كثير من الرموز السياسية بل وحتى الدينية هو المفكر المصري محمد سعيد العشماوي الذي ينشر مقالات في بعض المجلات العربية والصحف الخليجية من بينها «روز اليوسف» المصرية و«الراية» القطرية.
لقد بدأ بكتابة سلسلة من المقالات التي يحارب فيها الإسلام السياسي، وخطورة مقالاته أنه واحد من القدرات الفكرية النادرة التي تقنع قارئها من خلال ثقافته الواسعة. ومن بين المقالات التي يشوه فيها عددا من الرموز السياسية العربية والذي لم يسلم من تجريحه حتى العناصر التي كان متفقا على نزاهتها عربيا مقاله (الاتفاقات السرية كارثة العرب) الذي نشره في السابع من شهر ديسمبر/ كانون الأول الماضي.
يبدأ مقاله بدغدغة عواطف القارئ إذ يطرح بعض المسلمات التي يحس بها المواطن العربي عندما يقول: (لعوامل وعناصر كثيرة، منها طبيعة الثقافة العربية الشمولية التي تغل العقل وتشل الإرادة، وترسخ الإشاعات التي تنبني على تناقل الشائعات بغير تحقيق أو تدقيق، ولوقوع الشعوب العربية تحت نير الاستعباد العثماني زمنا طويلا، تلاه الاستبداد الإداري الذي عم وساد، لهذه الأسباب وغيرها، فإن الشعوب العربية توقفت عن النمو الطبيعي وأصبحت أشبه بالأطفال الذين لا يكفون عن طلب التدليل، ويميلون إلى الافتخار والتمجيد الكاذب حتى يصدقوه، ويرفضون قبول الحقيقة أو التعادل الصحي مع الوقائع والظروف والضرورات).
اتفاقات سرية
ثم يتهم المفكر المصري الشعوب العربية إذ يراهم وراء تشجيع هذه الاتفاقات السرية التي أبرمها عدد من الحكام العرب على اعتبار أن ما ساعد هؤلاء على ذلك هو ميل هذه الشعوب إلى العيش في عالم الوهم والأحلام من دون مواجهة الحقيقة، إذ يقول: (وإذ كان بعض الحكام في العالم العربي، يجدون أنفسهم راغبين أو مضطرين إلى اتخاذ قرار أو إصدار وثيقة أو تحرير اتفاق، فإنهم يفعلون ذلك خفية ومن دون إعلان، حتى لا تنقلب الشعوب عليهم، ما دام أن هذه الشعوب تميل إلى العيش في الأوهام والنوم في الأحلام، ولا تحب مواجهة الحقيقة. ونتيجة لذلك، فقد صار يقال من بعض حكام العرب ومن جميع الساسة على مستوى العالم، إن للحكام العرب وجهين، فهم يقولون في الغرف المغلقة شيئا، ثم يذيعون لشعوبهم في العلن شيئا آخر. وبهذا ضاعت الشفافية، ومحيت الصدقية، وسقطت الشرعية. وكان من نتيجة ذلك كله أن تتعرض الشعوب العربية لكوارث متصلة ونكبات متوالية، أساسها الاتفاقات السرية التي يبرمها الحكام).
ولم ينجو أحد من رموز الحكم في القيادات العربية إلا وألصق به تهمة الإتفاق السري مع العدو أو إحدى الدول الأوروبية، جاء في مقدمتهم الرئيس الراحل جمال عبدالناصر إذ اتهمه أنه في أعقاب العدوان الثلاثي على مصر العام 1956م لم يخرج الإسرائيليون إلا بعد أن أبرموا مع مصر اتفاقا سريا إذ قال: «في أعقاب العدوان الثلاثي على مصر العام 1956 لم تجل «إسرائيل» من الأراضي التي احتلتها في صحراء سيناء المصرية إلا بعد توقيع نظام الحكم المصري على اتفاق يسمح لها بحق المرور خلال مضايق تيران وخليج العقبة، مع وجود قوات دولية للطوارئ في داخل الأراضي المصرية، ومنها شرم الشيخ وعلى الحدود بين مصر وقطاع غزة، وأخفي هذا الاتفاق السري عن الشعب المصري بل والشعب العربي كذلك، فلم يشر إليه سياسي في مصر ولم يتناوله كتاب النظام بالتعليل أو التبرير».
بل ينتقد المرحوم عبدالناصر بمرارة ويزعم أنه كان يقول في محطات الإذاعة من الحرب الكلامية ما يناقضه في السر إذ يقول: «العام 1964 بدأت «إسرائيل» في تحويل مجاري الأنهار فوجدها فرصة بعض العرب من الشبان الذين كانوا قد سكروا من خمر النصر الزائف وطالبوا الرئيس عبدالناصر بإعلان الحرب الشاملة على «إسرائيل»، غير أنه قرر لهم في غرفة مغلقة أنه لا يستطيع محاربة «إسرائيل»، هذا في الوقت الذي كانت حملاته الكلامية وتهديداته العنترية تعطي العرب والإسرائيليين تقديرا مخالفا. فلماذا كان الرئيس عبدالناصر يهدد بحرب «إسرائيل» وتدميرها علنا بينما كان يعرف ما يقوله في الغرف المغلقة من أنه لا يستطيع أن يحارب «إسرائيل»؟!».
اتهامات أخرى
وتوغل في هجومه أكثر من ذلك حين أشار إلى انه كان هناك إتفاق سري بين عبدالناصر و«إسرائيل» ليقوم الأول بمحاربة الإسلام السياسي مقابل إطلاق يد «إسرائيل» للوصول إلى جنوب إفريقيا وأثيوبيا. لكن محمد سعيد العشماوي كشف للشعب العربي عن الدور الذي لعبه بعض الحكام العرب في المساعدة على تقسيم فلسطين بعد صدور القرار 181 من الأمم المتحدة في 29 أغسطس/ آب 1947 ومن بينهم الأمير عبدالله ملك الأردن، وليس هذا الحديث بجديد، فقد كان معروفا لدى الأوساط العربية المثقفة لكن الجديد هو محاولته تشويه رمز نظر إليه العرب على الأقل في تلك الفترة إلى أنه موحد للجزيرة العربية ولم يكن مكانا للشك فيه حين تحدث عن الوثيقة التي وقعها الملك عبدالعزيز آل سعود إذ قال: «في وثيقة حررها السلطان، والملك فيما بعد، عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود مندوب بريطانيا العظمى، السير برسي كوكس حدد سياسة بلاده إزاء أرض فلسطين، وهو الأمر الذي تحقق تماما من تصرفات الحكومة السعودية منذ تحرير الوثيقة في نهاية العشرينات من القرن الماضي وحتى الوقت الحاضر، فلم تقم بأي عمل ضد «إسرائيل»، وإن كثر فيها الكلام، وصار يزيد ويعيد».
ثم يتساءل قائلا: «فإذا كان هذا هو الموقف الحقيقي للحكومة السعودية، فلماذا لم تعلنه على الملأ وتعمل ما بوسعها لإقناع الشعوب به، بدلا من أن تتركها تحيا في الأوهام وتعيش على الأحلام، ثم تفاجئها الحقيقة وتصيبها باليأس والإحباط؟».
ويبدو أن العشماوي يعتمد على ما ورد في ذلك الكتاب الإنجليزي الذي اعتمد على الوثيقة المنشورة فيه من خلال تلك القصاصة التي يؤكدون فيها أنها بخط يد الملك عبدالعزيز نفسه وأن الختم ختمه مع أنه لا وجود لدليل واحد يؤكد أن الخط خطه فكل شيء يمكن تزييفه، فإن كانت الأوراق النقدية بكل تعقيداتها يتم تزييفها هذه الأيام فهل يصعب تزييف الخط والختم أو الوثائق؟
أنا أتحدى أن تكون هذه الوثيقة حقيقية فهو يدخل ضمن الهجمة الجديدة لإحباط الإنسان العربي، وتجديد الحديث عن هذه الأمور في هذه الأيام يدخل ضمن سلسلة المؤامرات التي يراد منها توصيل العرب إلى آخر درجات الإحباط لتتم الموافقة على كل ما تطلبه «إسرائيل» لفرض الواقع المر الذي يفرض خريطة الطريق على الشعب الفلسطيني بتعديلات شارون الـ 14.
هل يعقل أن يكتب الملك عبدالعزيز بخط يده ويوقع عليه وخصوصا أنه فتح تلك المناطق من دون دعم الإنجليز له؟
هل يعقل أن يكتب:«أنا السلطان عبدالعزيز بن عبدالرحمن بن فيصل آل سعود أقر وأعترف ألف مرة للسير برسي كوكس مندوب بريطانيا العظمى لا مانع عندي من إعطاء فلسطين للمساكين اليهود أو غيرهم وكما تراه بريطانيا التي لا أخرج عن رأيها حتى تصيح الساعة»؟
ما يؤكد وجهة نظري هو أن الدعم السعودي الرسمي ودعم الشعب السعودي للشعب الفلسطيني لم يتوقف وهم والكويتيون أكثر الدول العربية دعما للشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية، وإن مقتل المغفور له الملك فيصل بن عبدالعزيز على يد أحد أقاربه من خلال غسيل مخ تم له في الولايات المتحدة جاء بسبب موقفه من القضية الفلسطينية ثم المصرية في 1973م.
ثم ألم تكن مبادرة ولي عهد المملكة العربية السعودية الأمير عبدالله في قمة بيروت على رغم بعض الثغرات التي بها لكنها أرحم من خريطة الطريق وأكثر إنصافا للفلسطينيين، ولولا حرص المملكة وابناء الملك عبدالعزيز على الوقوف مع الشعب الفلسطيني فلم تقدموا بتلك المبادرة أصلا؟ ثم لماذا تلك الجهود المضنية التي تبذلها القيادة السعودية دفاعا عن القضية الفلسطينية، إذ بإمكانهم إبرام اتفاق سلام وتبادل سفراء مع «إسرائيل» على غرار القاهرة والأردن وبعض الدول الخليجية التي فعلتها على المكشوف.
إنني أحذر من أن يقع مثقفونا وغيرهم من المواطنين العرب في شرك الطروحات الجديدة التي تزيد في توغلهم في دائرة الإحباط التي لا رجعة منها. فقد تعودنا منذ القرن الماضي أن الاستخبارات الإسرائيلية وبدعم من الاستخبارات الأميركية والغربية عودتنا على القيام بهذه الحركات بحيث تحاول تشويه كل الرموز الذين رحلوا ولا يمكنهم الدفاع عن أنفسهم، فهل ما يكتبه المفكر المصري محمد سعيد العشماوي يدخل ضمن هذا المخطط أم حقائق يجب التسليم بها؟
كاتب بحريني
العدد 490 - الخميس 08 يناير 2004م الموافق 15 ذي القعدة 1424هـ