رأى المقدم في الشرطة العراقية داوود موسى، آخر مرة ابنه بهاء حيا في الرابع عشر من سبتمبر/ أيلول الماضي، عندما شن الجنود البريطانيون غارة على فندق البصرة الذي يعمل فيه الشاب موظف استقبال.
يقول داوود: «كان مستلقيا مع سبعة موظفين آخرين على الأرضية الرخامية وأيديهم على رؤوسهم. قلت له لا تجزع، لقد تحدثت إلى الضابط البريطاني وقال سيطلقون سراحك خلال ساعتين». ليس هذا فحسب، أعطاه الملازم البريطاني مذكرة كتب عليها «إلى الملازم اول مايك»، إلى جانب توقيع ورقم هاتف البصرة، ولم يكن هناك لقب.
وأضاف داوود، وهو جالس على أرضية بيته المتواضع: «بعد ثلاثة أيام، شاهدت جثة ابني. جاء البريطانيون ليقولوا إنه مات تحت الحراسة». كان أنفه مكسورا والدم في فمه وكدمات على أضلاعه وفخذه، وتمزق الجلد حول رسغه بسبب الأصفاد». وخلّف بهاء موسى طفلين: حسن (5 سنوات) وحسين (3 سنوات)، وكانت زوجته (22 عاما) توفيت بالسرطان قبل ستة أشهر من وفاته هو.
الرجال الثمانية الذين اعتقلوا في فندق الهيثم - إذ وجد فيه البريطانيون أربعة أسلحة مخفية - تعرضوا لمعاملة وحشية أثناء اعتقالهم. وتعرض أحد زملاء بهاء - كفاح طه - لفشل كلوي حاد بعد أن رُكل في كليتيه، إذ أظهر مستشفى فريملي بارك في بريطانيا أنه «أصيب بكدمة مؤلمة عقب ضربات متكررة».
وعندما زار المقدم داوود وأحد أبنائه (علاء) كفاح طه في مستشفى البصرة بعيد إطلاق سراحه، بحثا عن أخبار بهاء، وجدا الرجل الجريح «نصف إنسان فقط، وعلى أضلاعه وبطنه كدمات مروِّعة من الركل، وبالكاد كان يتحدث». لكن زميلا آخر لبهاء - طلب من صحيفة «الإندبندنت» ألا تنشر اسمه لئلا تعيد القوات البريطانية في البصرة اعتقاله - أعطى وصفا مفزعا للمعاملة التي تلقاها الرجال الثمانية بمجرد وصولهم إلى مركز التحقيق البريطاني هناك. ومن المصادفة الفظيعة أن المبنى كان مقر الجهاز السري لعلي المجيد المعروف بـ «علي الكيماوي» ابن عم صدام الوحشي، لتسميمه الأكراد في حلبجة بالغاز وشغل منصب الحاكم العسكري للبصرة أخيرا.
يقول زميل بهاء: «لقد وضعونا في غرفة كبيرة وأيادينا مصفدة والحقائب على رؤوسنا. لكنني استطعت الرؤية من خلال فتحات في قلنسوتي. دخل الجنود الغرفة وأخذوا يضربوننا واحدا تلو الآخر، ويرفسوننا في الصدر وبين السيقان وفي الظهر، فأخذنا نصرخ ونبكي. وركزوا خصوصا على بهاء وأخذ يصرخ إلى درجة أنه لم يستطع التنفس. استمر في طلبه أن يبعدوا عنه الحقيبة، وقال إنه يختنق. ولكنهم سخروا منه واستمروا في مزيد من الضرب، حتى سقط على الأرض. ولم يستطع أحد منا الوقوف أو الجلوس لأن ذلك كان مؤلما للغاية».
ولم يذكر أحد من السجناء أنه استجوب لكشف الأسلحة في الفندق، والرجل الذي أخفاها هناك كان آمنا لأنه فرَّ من المبنى بعد وصول البريطانيين. أبوه وشريك أعمال آخر هو أحمد طه موسى، مازالا في السجن البريطاني في جنوب العراق.
وطلبت منظمة العفو الدولية تحقيقا نزيها ومستقلا في وفاة بهاء وسوء معاملة السجناء العراقيين الآخرين، ولكن حاولت وزارة الدفاع الاحتفاظ بتحقيقها داخل أروقة الجيش. وأطلق سراح الجنديين اللذين اعتقلا بهاء أولا ولهما علاقة بموته، ولذلك استاءت أسرته من ذلك. وقال أخوه: «سنقوم بمقاضاة الجيش البريطاني في لندن، أعطَوْنا 3 آلاف دولار تعويضا، وقالوا إننا سنحصل على 5 آلاف دولار أخرى، ولكنهم لم يقبلوا المسئولية في قتله، ونحن رفضنا هذا المبلغ. نريد العدالة ومعاقبة الجنود المتورطين في قتله، فكم ستتلقى أسرة بريطانية لو اعتقل جنودكم ابنها وضربوه حتى الموت؟».
أعطيت أسرة موسى شهادة وفاة دولية من الجيش البريطاني مؤرخة في 21 سبتمبر، تشير إلى أن الوفاة بسبب «توقف شرايين القلب: اختناق». لكن الضابط البريطاني الذي وقع الوثيقة فشل في أن يملأ الخانة التي تشير إلى السبب. كذلك فشل في أن يملأ الخانة التي تشير إلى «فترة تقريبية بين بداية (الاختناق) والوفاة». والأخطر من ذلك أن الجيش البريطاني فشل في إكمال طلب الاستمارة لـ «قيادة/ الفيلق/ القوات البريطانية».
وتم فتح تحقيق في وفاة بهاء موسى في 18 سبتمبر من قبل فرع التحقيق الخاص للشرطة العسكرية الملكية. ومن البداية واجه التحقيق الخاص دليلا مقحما بأن القوات البريطانية ركلت وضربت السجناء في معتقلهم.
كتب مستشار التخدير والعناية المركزة في المستشفى الميداني الرائد جيمس رالف، في خطابه أن كفاح طه «أدخل إلى وحدتنا في الساعة 22,40 في يوم 16 سبتمبر. اتضح أنه تم الاعتداء عليه قبل 72 ساعة تقريبا، ويعاني من كدمة حادة أعلى البطن الجانب الأيمن من صدره وساعده الأيسر ومقدمة فخذه». ووصف المريض بأنه يعاني من «فشل كلوي حاد».
وقال الأب داوود موسى إن الجنود رفسوا ابنه بشكل متعمد حتى الموت، لأنهم اكتشفوا أن والده أقنع الضابط البريطاني - ملازم مايك - بأن يوقف جنودا بريطانيين سرقوا أموالا من الفندق أثناء الغارة، وقد ثبتت عليهم تلك التهمة. ولكن التحقيق العسكري لا يريد أن يستمع إلى هذا، «وليسوا مهتمين بالسرقة أو لماذا يريد الجنود الذين سرقوا النقود إساءة معاملة ابني نتيجة لما قمتُ به».
قال علاء إنه انقضت ثلاثة أيام قبل أن نعلم حقيقة ما حدث لبهاء. «جاء الجنود وسألوا عن أبي (داوود) وطلبوا أن يأتي أحد منا للتعرف على الجثة. وقال الرقيب جاي، الذي كان برفقتهم، إن طبيبا من بريطانيا سيأتي لفحص الجثة». وأوضح علاء كيف التقى أخيرا اختصاصي الأمراض (البرفيسور هيل) الذي اعترف بأنه كانت «هناك علامات واضحة للغاية للضرب على الجسم» مع تكسّر ضلعين من أضلاعه.
ورتّب المسئول السياسي البريطاني في المدينة روبرت هاركينز مقابلة لأسرة موسى مع قائد القوات البريطانية في البصرة العميد ويليام مور. وقالت الأسرة إنه على رغم إعراب العميد مور عن تعازيه لداوود موسى، فإنه (مور) رفض السماح لمحامٍ عراقي بالمشاركة في التحقيق البريطاني. وقال علاء: «أخبرنا أنه طالما وقعت الحادثة داخل الجيش البريطاني، فإن الجيش سيجري التحقيق».
وأصدر العميد بيانا في 3 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي عبّر فيه عن «أسفه» بأن ابنهم «مات عندما كان في يد السلطة القضائية البريطانية»، ووعد بأنه في حال توصلت الشرطة العسكرية إلى أن جريمة ارتكبت «فإن المشتبه فيهم ستتم محاكمتهم بحسب القوانين البريطانية». وقبلت الأسرة مبدئيا التعويض بمبلغ 3 آلاف دولار، وقالت إن دفع هذا المبلغ يعني قبول البريطانيين بالمسئولية، ولكنها رفضت توقيع خطاب تلقته الشهر الماضي من ضابط المطالبات البريطانية يدعى بيركنز يعرض 5000 دولار «لتسوية نهائية للحادثة» والتي تمت «من دون قبول بالمسئولية نيابة عن الفريق البريطاني لقوات التحالف في العراق».
وقال متحدث باسم وزارة الدفاع أخيرا: «إنه بحسب علمي، ابتداء من مطلع ديسمبر/ كانون الأول الماضي، مازال التحقيق مستمرا». ولكن لم يظهر أن هناك تهما وُجهت، وليس هناك جنود أُوقفوا، وبقي علاء موسى ووالده داوود غاضبين من هذه المعاملة. ويتساءل علاء: «هل يفلت الجنود المسئولون عن قتل بهاء من العقوبة؟ ولماذا لا يشركونا في هذه القضية؟ إذا لم تتم معاقبة هؤلاء الرجال فسيفعلون ذلك مرة أخرى. نحن لم نقل إن البريطانيين محتلون، نعتقد أنكم جئتم إلى هنا لإنقاذنا من صدام، لكن ما كان لكم أن تعاملوا أسرتي بمثل هذه الطريقة، وإذا استمررتم على هذا النهج فإن الترحيب الكبير بكم في البصرة سيتلاشى»
العدد 490 - الخميس 08 يناير 2004م الموافق 15 ذي القعدة 1424هـ