العدد 489 - الأربعاء 07 يناير 2004م الموافق 14 ذي القعدة 1424هـ

هل تدخل ليبيا مرحلة الإصلاح السياسي؟

بعد التراجع الاقتصادي والأيديولوجي...

صلاح الدين الجورشي comments [at] alwasatnews.com

.

تاريخ السياسية الليبية هو تاريخ المفاجآت غير المتوقعة. إنه جزء من أسلوب الحكم الذي اعتمده العقيد القذافي منذ أن أطاح بالعائلة السنوسية، وأدخل الليبيين في عوالم لم يعهدوا مثلها من قبل. وبينما كان العرب مشغولون بما يجري داخل العراق وحوله من تطورات وتداعيات الاحتلال، أعلنت طرابلس من دون سابق إشعار أنها قررت التخلي عن مشروعها الخاص بإنتاج أسلحة الدمار الشامل. وكان أول من فوجئ بهذا الإعلان الخطير هم الليبيون أنفسهم الذين لم يخطر ببالهم أن بلادهم، التي تعاني من فقدان الكثير من الخدمات الأساسية، كانت بصدد الاستعداد لصناعة أسلحة لا تملكها عادة إلا الدول الكبرى.

السؤال المطروح حاليا: هل ما تم الكشف عنه من اتفاق ليبي أميركي بريطاني طبخ على نار باردة، سيشكل هذه المرة بداية فعلية لتغييرات جذرية في السياسة الليبية على الأصعدة الداخلية والإقليمية والدولية؟

عندما ينقلب الزعيم على تاريخه

عندما وصل القذافي إلى السلطة في فجر الأول من شهر سبتمبر/ أيلول 1969، كان المد القومي قد بلغ مداه، وبدأ يتراجع مثقلا بالانتكاسات وتداعيات التجربة والخطأ. مع ذلك عمل العقيد الشاب على إنقاذ الخطاب القومي في صبغته الناصرية، مستعينا في ذلك ببعض المثقفين القوميين. غير أن حصاد الثلاثين سنة الأخيرة لم يكن سوى هشيم ذرته الرياح. وهل هناك أكثر قسوة من أن يتخلى زعيم عن أيديولوجيته التي ملأ بها الدنيا وشغل الناس، ويعلن لشعبه أن رهانه كان مجرد «سراب». لقد اكتشف العقيد أن ليبيا أخطأت الطريق عندما اعتقدت أنها جزء من الأمة العربية، وأن انتماءها الحقيقي يجب أن يكون إلى القارة السمراء.

ليبيا تتخلى عن «اشتراكيتها»

لم يكن ذلك التراجع الأيديولوجي الأول والوحيد الذي أقدمت عليه القيادة الليبية. لقد سبق لها أن قررت منذ بضع سنوات الانخراط في مسار العولمة التي حدد ملامحها القطب الرأسمالي، وذلك بتحقيق انتقال سريع وفجائي من النمط «الاشتراكي» - الذي أحدث أضرارا قاسية بحياة الليبيين - إلى تبني آليات اقتصاد السوق. وهو تحول لا يقل أهمية ودلالة عن الانقلاب الأيديولوجي، لأن النظرية الثالثة التي تضمنها «الكتاب الأخضر» وابتكرها القذافي اعتمدت على التبشير بوجود طريق ثالث بين الرأسمالية والشيوعية. وهي نظرية تعلمها الليبيون لفترة تزيد على العشرين عاما، وتم إقناعهم بأنها ليست علاجا للأوضاع الليبية فقط بقدر ما هي منظومة ثورية أعدت لإنقاذ البشرية من الضياع. ومن أجل ذلك أنفقت المليارات للتعريف بتلك النظرية، وكسب الأنصار لها في جميع أنحاء العالم، مثلما كان يفعل الاتحاد السوفياتي والصين أثناء الغليان الأيديولوجي الماركسي. كما عقدت مؤتمرات دولية لشرح النظرية، شارك فيها أساتذة قدموا من مختلف الجنسيات ليدافعوا عن أطروحات لا يؤمن بها الكثير منهم.

اللعبة انتهت

الآن أدركت السلطة الليبية أن اللعبة انتهت، وأنه بعد إسقاط حكم صدام حسين، وانهيار بغداد لم يعد هناك هامش للعب أو المناورة. لهذا اختار القذافي أن يكشف ما بقي له من أوراق، سعيا إلى طي صفحة جديدة مع الولايات المتحدة والغرب. إنه يريد أن يقلل من فرص زعزعة نظامه ويحد من رغبة التخلص منه. فهو يعلم بأنه ليس في قوة صدام ولا ليبيا في حجم العراق، وبالتالي فإن «الواقعية السياسية» تفرض عليه التعامل بـ «عقلانية» مع طبيعة المرحلة. فهو يعتقد في قرارة نفسه بأن حاكم بغداد السابق هو الذي جنى على نفسه عندما رفض الاعتراف بأن موازين القوى ليست في صالحه، وراهن على جيش خانه وشعب لم يكن يخلص الولاء له وحزب يستمد قوته من قوة الدولة. وبالتالي فإن السيناريو الذي تحقق في العراق يمكن أن يتكرر بشكل أكثر دراماتيكية في ليبيا. ومن هذه الزاوية أقر العقيد القذافي بما سبق أن اعترف به ياسر عرفات من قبل حين اعتبر أن 99 في المئة من «الحل» هو بيد الولايات المتحدة الأميركية. لكن على رغم الوعود و«التطمينات» التي تلقاها ابن العقيد «سيف الإسلام» من وسطاء أميركيين وبريطانيين بأن واشنطن ولندن ستتوليان «حماية ليبيا»، فإن ذلك ليس مؤكدا. فالإدارة الأميركية لاتزال مستمرة في محاولاتها لابتزاز النظام الليبي واستعماله ذريعة لتحقيق أهداف استراتيجية على الصعيد الإقليمي. كما أن أزمة الثقة بين الطرفين لاتزال قائمة. وهو ما من شأنه أن يدفع ليبيا إلى تقديم مزيد من التنازلات لإثبات «صحة توبتها».

عندما حلّت السلطة مكان الدولة

السؤال الآخر الذي يشغل الليبيين يتعلق بمدى تأثير المراجعات الأيديولوجية والدبلوماسية والاقتصادية السابقة على أسلوب حكم النظام الليبي. فعدة من التجارب بيّنت أن هناك أنظمة يمكنها أن تفصل الانفتاح الاقتصادي والدبلوماسي عن الانفتاح السياسي، وأن تستثمر الجانب الأول كنوع من المقايضة لتأجيل الجزء الآخر من المعادلة أو اختزاله في عناصر سطحية وجزئية.

إن للنظام الليبي طبيعة مناقضة لهيكلية أي نظام سياسي عادي. فهو نظام قام على أساس نفي النمط المؤسساتي وعمل على إلغاء الدولة. وباسم الحكم المباشر للجماهير، تم القضاء على مختلف المؤسسات الموروثة، مثل البرلمان والقضاء والأحزاب والنقابات والجمعيات والصحافة والجامعات وشركات القطاع الخاص. حتى مؤسسة الجيش أخضعت لتغييرات جوهرية أفقدتها الكثير من خصوصياتها التقليدية، وأبعدتها كليا عن المشاركة في صناعة القرار السياسي. وهكذا تم عبر السنوات إعادة هيكلة المجتمع الليبي الذي تحول إلى ذرات تدور حول نواة صلبة يمثلها العقيد القذافي وعناصر اللجان الثورية الموالية لهؤلاء مطلقا. وإذا كان الباحث السوسيولوجي منصف ونّاس أنهى دراسته عن المجتمع المدني الليبي بقوله إن ليبيا «قطعت جزءا كبيرا من تراث مؤسساتها الأهلية والتقليدية من دون أن تستحدث بدائل تنظيمية مقنعة وقادرة على خلق ديناميكية جمعياتها»، فإن ملاحظته في الحقيقية يمكن سحبها على كثير من القطاعات الحيوية الأخرى بعد أن تلاشت الدولة بمكوناتها التقليدية. لأنه كما ذكر فإن ليبيا «حين اندمجت في المشروع السياسي الثوري كان ذلك بمثابة إلغاء ماضي البلاد بكل مكوناته» (راجع كتابه «السلطة والمجتمع والجمعيات في ليبيا»).

هل يتغير أسلوب الحكم؟

اليوم يجد النظام الليبي نفسه مدعوا إلى التخلي عن «فلسفته الشمولية» للحكم، والعودة إلى السماح ببناء مؤسسات سياسية قائمة على الاستقلالية والمشاركة. والسؤال المطروح حاليا: هل أن أميركا ستستغل الجانب السياسي الداخلي وتمارس ضغوطا قوية على النظام لكي ينفتح على المعارضة، ويقبل بقدر أدنى من الحريات والمشاركة الشعبية الفعلية، أم أن لغة المصالح ستتغلب في النهاية كما تغلبت في حالات أخرى عدة؟

وهنا يبدو النظام أكثر تحفظا وترددا وتخوفا من تداعيات ذلك على استقراره الداخلي واستمرار احتكاره للحكم. لكن يبدو أن عناصر قريبة من العقيد القذافي وابنه (سيف الإسلام) تحاول أن تدفع في اتجاه تحقيق انفتاح سياسي داخلي يكون محسوبا وملموسا ومتدرجا من دون أن يلحق أضرارا بالنظام. وقد كانت هذه العناصر وراء الجهود التي بذلت لمدة أشهر في سبيل إعادة تطبيع العلاقات مع أميركا وبريطانيا وفرنسا. وهي نفسها التي تقف وراء تسريب المعلومات الأخيرة المتعلقة بعزم القذافي على «إجراء تغييرات واسعة على معظم أجهزة الأمن والاستخبارات خلال الأسابيع القليلة». والقول إن ذلك يندرج ضمن مبادرات متوقعة في اتجاه «دعم الإصلاح السياسي».

وإذا صحت هذه المعلومات، فإن الشروع في تطهير الأجهزة الأمنية واللجان الثورية، والتفكير في إلغاء محكمة الشعب وما ارتبط بها من تاريخ سيئ وقوانين استثنائية مناقضة لحقوق الإنسان، يعتبر خطوة مهمة ذات دلالة رمزية وسياسية. فهذه الأجهزة كانت تتمتع بصلاحيات مطلقة، ولا تحكمها ضوابط أو قوانين، لهذا كانت ولاتزال متهمة من قبل الليبيين ومنظمات حقوق الإنسان بارتكاب تجاوزات خطيرة واستغلال النفوذ للإثراء غير المشروع.

وإذا ما اتخذت إجراءات واضحة في هذا السياق تتجاوز مجرد تبييض الواجهة، فإن التغييرات لن تقف بالتأكيد عند مستوى استبدال وجوه بأخرى، ولكن الأمر سيشمل بالضرورة الأساليب والمؤسسات، وقد ينعكس على علاقته بالمعارضين المقيمين خارج البلاد، وربما قامت مبادرات محتشمة لإعادة بعث صحف مستقلة ذات توجهات نقدية. فالواضح أن الشعب الليبي الآن مختلف عما كان عليه في مطلع السبعينات، وأن جيلا ليبيا صاعدا يبحث عن المشاركة الفعلية، وله انتقاداته للأوضاع السائدة في بلاده، وله تطلعات لم يعد بالإمكان تجاهلها من قبل السلطة. ومهما كانت الاحتمالات فإن ليبيا مرشحة لتشهد مزيدا من الحراك السياسي والاجتماعي خلال المرحلة القريبة المقبلة

العدد 489 - الأربعاء 07 يناير 2004م الموافق 14 ذي القعدة 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً