مع بواكير الشهر الماضي تسلّمت السلطتان التنفيذية والتشريعية في الجمهورية الإسلامية النص الكامل للخطوط العريضة الموضوعة من قِبَل القائد الأعلى للثـورة الإسلامية الإمام الخـامنئي (52 بندا) للخطة الخمسية الرابعة للشئون الثقافية والعلمية والتقنية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والدفاعية والأمنية والموضوعات التي تتعلق بالعلاقات السياسية والعلاقات الخارجية، وتأتي تلك الخطة داعمة لوثيقة الآفاق المستقبلية للجمهورية الإسلامية للعشرين سنة المقبلة التي صدرت قبل أشهر، وطبقا للمادة 110 من الدستور فإن القائد أو المُرشد هو الواضع للسياسات الكلية للدولة بالاستعانة بمنظمة الإدارة والتخطيط والأمانة العامة لمجمع تشخيص مصلحة النظام.
كانت الخطط الاقتصادية والثقافية التي وُضِعَت بعد انتصار الثورة الإسلامية (وبسبب ظروف الحرب مع العراق) تُدار بشكل مركزي وموجّه إذ أُمِّمَت معظم الصناعات الثقيلة كالحديد والصلب والبتروكيماويات وغيرها في عهد رئيس الوزراء الإيراني السابق مير حسين الموسوي، واستمر ذلك الحال حتى مجيء حكومة الرئيس هاشمي رفسنجـاني التكونوقراطية في 15 يوليو/ تموز 1989 التي رَفَعت شعار الإعمار والبناء وتحرير الاقتصاد وبالتالي بروز اليمين الصناعي في الوسط الإجرائي والمؤسسي، وبدأت في وضع الخطة الخمسية الأولى ثم الخطة الخمسية الثانية في العام 1994 التي أكملت الجزء الأخير منها حكومة الرئيس محمد خاتمي على رغم أنها بدّلت إلى حد ما سُلّم الأولويات الموضوعة سَلَفا فتمّ تقديم التنمية السياسية على التنمية الاقتصادية، وفي العام 1999 تمّ وضع الخطة الخمسية الثالثة التي كانت أكثر ارتباكا من سابقتها بسبب تدني أسعار النفط التي وصلت بدءا من العام 1997 - 1999 إلى أقل من 10 دولارات وفي مرحلة منها إلى 6 دولارات وبالتالي انخفض مخزون إيران من العملة الصعبة التي تأتي 82 في المئة منها من عائدات النفط، كما انخفض مُعدّل النمو إلى 3 في المئة بعد أن كان 6 في المئة إبّان حكومة الرئيس هاشمي رفسنجاني .
ويأتي الإعداد التنظيمي للخطة الخمسية الرابعة هذه الأيام في وقت تشهد فيه الجمهورية الإسلامية تحسنا في مُعدل البطالة إذ انخفض إلى ما يُقارب الـ 10 في المئة بعد أن كانت 15 في المئة كما ارتفع معدل النمو إلى 8 في المئة من دون النفط وهي أحد أعلى معدلات النمو الاقتصادي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا (وهو أكده أيضا مساعد الصندوق الدولي) وازداد مخزون إيران من العُملة الصعبة متجاوزا العشرين مليار دولار، كما ازداد توجه الاستثمارات الأجنبية نحو قطاعات غير النفط بعد تعديل قانون الاستثمار وتوحيد سعر صرف العملة الأجنبية وإصلاح النظام التجاري وتحرير الاقتصاد، يُضاف إلى كل ذلك أن الاقتصاد العالمي سيشهد نموا ملحوظا هذا العام من المتوقع أن يصل إلى 4,1 في المئة بعد أن بلغ العام الماضي 3,2 في المئة وهي تقديرات قدمها صندوق النقد الدولي حديثا واصفا ذلك بأنه أعلى نمو من نوعه منذ العام 2001، وهي مُؤشرات قد تُساعد بقوة على تنفيذ أهداف الخطة الجديدة بما يتوائم مع ما هو مأمول من قِبَل صُنّاع القرار في طهران.
العلاقات السياسية والخارجية
ركّز المرسوم من جديد على الترويكا النظرية الخامنئية النابعة من توليفة العزّة والكرامة والمصلحة في السياسة الخارجية الإيرانية، وهي مقولة راجت مع بداية عقد التسعينات وتحديدا بُعيْد حرب الخليج الثانية، كما نصّ المرسوم على مواصلة نهج تجنب التوتر في العلاقات مع الدول وتوسيع التعاون المتبادل إقليميا ودوليا، وهي السياسة ذاتها التي بدأها الرئيس (السابق) هاشمي رفسنجاني مع دول أوروبا الغربية وخصوصا فرنسا وألمانيا والدول الاسكندنافية ثم مع دول الخليج في ضفته الغربية حين توطدت العلاقات مع كبرى عواصمه وهي الرياض فرضته عوامل خروج العراق من منظومة التأثير الخليجي وتنامي التحالف التركي الإسرائيلي في حديقة سورية الخلفية وقضايا الأوبك المُستعرة آنذاك مُنهين بذلك صراعا أيدلوجيا واختلافا جيوسياسي كان سائدا قبل العام 1996 بحجة التنافس الإقليمي، وقد تنامى مسار العلاقات البينية أكثر بالزيارات المكوكية والنوعية بين الرياض وطهران، وعندما سُئِلَ وزير الدفاع السعودي الأمير سلطان بن عبدالعزيز في اليوم الرابع والأخير لزيارته التاريخية لطهران قبل عامين «هل تعتبر القدرات التسليحية الإيرانية خصوصا القدرات الصاروخية تهديدا للسعودية والدول العربية في الخليج؟ فأجاب: هذا ما يقوله الأجانب أما نحن فنقول إن القوة الإيرانية هي قوة للمسلمين» كما دخل البلدان في مارس/ آذار 1999 وعشية الأزمة النفطية الكبرى التي بدأت فعليا منذ العام 1990 واستمرت حتى العام 1999 في حلف مع فنزويلا والمكسيك للاتفاق على خفض الإنتاج ليبلغ 1,700 مليون برميل.
كما تضمن مرسوم السياسات العامة في مجال العلاقات الدولية العمل على تخليص المنطقة من الوجود العسكري الأجنبي الذي تنامى كثيرا بعد سقوط نظامَي طالبان (2001) وصـدام حسين (2003) فالمتتبع لذلك يُمكنه أن يلحظ ذلك جيدا فقاعدة أبوشوران في آذربيجان نزولا نحو قاعدة إنجرليك في تركيا ثم الوجود العسكري الأنغلوساكسوني الكثيف في العراق (حوالي 160 ألف جندي) ثم القواعد العسكرية في الخليج إذ الاسطول الخامس وتسع قواعد جوية وقاعدتان بحريتان وقواعد برية وقاعدتان جويتان في الكويت (علي السالم وأحمد الجابر) وقاعدة جوية في السيلية بقطر، ثم الوجود العسكري في موانئ اليمن وباب المندب وفي الأراضي الأفغانية وهو ما جعل المنطقة أشبه ما تكون بالثكنة العسكرية المُلغّمة، وهو ما يجعل القدرات العسكرية والدفاعية الإيرانية في حال يقظة واستنفار دائم باعتبارها هدفا استراتيجيا وهو ما يُكلفها الكثير.
الشئون الاجتماعية
والسياسية والدفاعية والأمنية
تمّ التركيز في هذا الباب بصورة عمودية على دعم المؤسسات الشعبية والخيرية غير الحكومية وهي إشارة لها دلالة مهمّة خصوصا مع وجود الكثير من تلك المؤسسات في إيران والتي تشكّلت مع بدايات الثورة الإسلامية عندما كان الفراغ المؤسسي والسياسي يُشكّل خطرا داهما على الحركة الاجتماعية والاقتصادية، إذ تقوم تلك المؤسسات بدور مؤثر في الحياة العامة وهو ما رأيناه في عمليات الإغاثة والإسعافات لضحايا زلزال بَمْ جنوب شرق إيران في السادس والعشرين من الشهر الماضي، بل تُعتبر أحيانا كرديف فِعلي ومهم للسلطة التنفيذية ولها كيانها البارز في مجال التنمية الاقتصادية كمؤسسة المستضعفين المعنية بالممتلكات المُصادرة من أسرة بهلوي من شركات وقصور وفنادق ودور سينما وبساتين فارهة ومزارع ومصانع إذ تقوم باستثمار تلك الممتلكات لصالح الطبقات الاجتماعية المتهالكة وإسكانها، بالإضافة لمؤسسة الشهيد وهي مؤسسة تهتم بذوي ضحايا النضال ضد الشاه والحرب مع العراق الذين بلغوا 188 ألفا و15 شخصا، وهناك مؤسسة الإسكان المعنية بإنشاء وحدات النور السكنية الضخمة المخصصة للأسر الفقيرة وأسر ضحايا مناضلي الثورة، بالإضافة إلى الوجود النّشِط للجنة الإمام الخميني للإغاثة وهي لجنة خيرية أخطبوطية ضخمة تعيل أكثر من أربعة ملايين شخص في إيران، وتُساهم بشكل رئيسي في دعم متطلبات الشباب المعاشية، وقد تصدت بشكل رئيسي طيلة الأربعة والعشرين سنة الماضية بالقيام بـ 130 حفل زواج جماعي لمئات الآلاف من الشباب الإيراني تكفّلت خلالها بالمهور وأثاث المسكن.
لذلك فإن المرسوم أولى أهمية نوعية لتلك المؤسسات في محاولة لتدعيمها وكيننتها بما يتناسب ودورها في حركة المجتمع.
كما تضمّن المرسوم مسألة الاعتناء بالمؤسسة العائلية وتعزيز مكانة المرأة فيها وفي الميادين الاجتماعية وإقرار الحقوق الشرعية والقانونية للنساء في المجالات كافة، خصوصا وأن المرأة الإيرانية باتت تُمارس دورا محوريا في مناحي السياسة (هناك 67 صحيفة تُدار من قبل نساء) والاقتصاد والتعليم والصناعة والإنتاج والفن والجيش، فهي نائبة برلمانية أو مساعدة لرئيس الجمهورية ورئيسة لمجلس بلدي، كما تمّ تعيين مستشارة لكل وزير في الحكومة لمتابعة شئون المرأة وتمّ أيضا تشكيل اللجنة الاجتماعية الثقافية التي تُشارك في رسم السياسات التخطيطية لتعليم المرأة، يُضاف إلى كل ذلك أن القوانين والقرارات المدنية والقضائية تشتمل على لفتات مُهمّة تختص بشئون المرأة يُمكن التطرق إليها في حينها.
الشئون الثقافية والعلمية والتقنية
أفرد المرسوم أكثر من أحد عشر بندا عاما يخص الشأن الثقافي والعلمي والتقني في إيران، فهذا البلد التي يصدر فيه سنويا 30 ألف كتاب بينها 10 آلاف عنوان جديد بمعنى 30 كتابا يوميا وبه 1150 صحيفة تستهلك من الورق ملايين الأمتار، تعيش حالة من الفوران العلمي والحِراك الثقافي النشِط في جامعاتها وحوزاتها الدينية ومجامعها العلمية والفنية على رغم هجرة العقول الأكاديمية المتزايدة منها نحو أوروبا الغربية عبر البوسنة، وكانت آخر إحصائية صدرت قبل شهر أشارت إلى أن إيران احتلت المرتبة الثانية علميا بعد تركيا ضمن منظومة الدول الإسلامية، وحصلت على أفضل بحث علمي في مجال التخصيب في الشرق الأوسط خلال المؤتمر العلمي العاشر في بيروت الشهر الماضي وفي سبيل ذلك فقد نشطت عملية تشكيل المؤسسات العلمية كمؤسسة «زيرقزاده» للعلوم مطلع العام 1993 كمؤسسة إيرانية غير حكومية، وخلال العقد الماضي تم تأسيس ثلاثة مراكز للعلوم في جنوب طهران تستقبل من الزوار ما يفوق الـ 600 زائر يوميّا كما توجد ثلاثة مراكز أخرى أيضا في الأهواز بمحافظة خوزستان وفي كل من بابول والمباركة بأصفهان، وتقوم هذه المراكز بتقديم نوع من التعليم غير الرسمي والخدمات المعلوماتية والقيام بالتدريب وتقديم الاستشارات.
وكانت الجمهورية الإسلامية قد شَهِدت خلال العشرين سنة الماضية وخصوصا بعد الحرب مع العراق نشاطا ثقافيا وعلميا قويا بعد ابتعاث الآلاف من الإيرانيين للدراسة الأكاديمية في الجامعات الأوروبية والأميركية والروسية، كما أن مشروع آية الله مصباح يزدي إرسال 300 من طلبة حوزة قم للدراسة في الخارج قد أذكى ذلك أيضا.
ويبقى نجاح الخطة الخمسية الرابعة مرهون بنجاح إيران في المحافظة على أسعار النفط لتأمين أعلى مردود مادي وذلك بالتحالف مع المُصدرين الرئيسيين في الأوبك كفنزويلا والمكسيك والمملكة العربية السعودية ومن ثم الالتزام بالحصص النفطية المُقننة، كذلك بنجاح إيران في الإفلات من المصائد الأميركية المتلاحقة التي قد تُكلفها من جديد استنزافا سياسيا ودبلوماسيا عن طريق تأزيم المواقف الدولية معها باستصدار قرارات أممية جديدة تغل يد طهران عن الوصول للكثير من المشروعات الاقتصادية كما حصل معها في قانون دماتو قبل سبعة أعوام. بالإضافة إلى ذلك فالأمر أيضا مرهون بمصير حال المنافسة الداخلية بين المحافظين والإصلاحيين وإلى أين ستؤول، وما هو سقف اتفاقهم على سُبل إجرائية تفاصيل الخطط الموضوعة ومدى سيطرة البرامج الحزبية عليها
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 489 - الأربعاء 07 يناير 2004م الموافق 14 ذي القعدة 1424هـ