قبل أشهر اتضح للأميركيين أنهم بحاجة إلى الحصول على تأييد شيعة العراق وكذلك الحاجة الملحة لإشراك إيران في وضع خطط مستقبل البلد الجار. وكانت العقبة التي واجهتها واشنطن أن الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش وضع إيران في قائمة دول محور الشر كما أن الجمهورية الإسلامية تعمل في برنامج لإنتاج أسلحة الدمار الشامل ومازالت تصف القوة العظمى الوحيدة في العالم بلقب الشيطان الأكبر. احتجت إيران على استمرار وجود قوات أجنبية في العراق، ولكنها لم تحتج كثيرا حين وقعت الحرب التي أدت إلى نهاية عهد حزب البعث. وسرعان ما شعر الأميركيون بأهمية العنصر الشيعي في العراق، فهذه الطائفة تشكل الغالبية مقارنة مع العرقيات الأخرى. كانت إيران استعدت جيدا لمرحلة ما بعد الحرب فأرسلت قادة عراقيين في المنفى الإيراني إلى مدن الشيعة، وعلى الفور ظهرت قيادات دينية كشفت عن طموحات سياسية لم يؤثر اغتيال آية الله محمد باقر الحكيم الذي خلفه شقيقه عبدالعزيز الحكيم على هذه المسيرة التي تعبر أيضا عن طموحات المسئولين الإيرانيين. فإيران أبرز البلدان المستفيدة من حرب العراق. وقعت إيران على بروتوكول إضافي ملحق بالمعاهدة الدولية للحد من انتشار أسلحة الدمار الشامل وهكذا سهلت الأمور أمام واشنطن لتكثيف الاتصالات المتقطعة التي تجري في الغالب سرا في سويسرا وألمانيا. ثم حصلت كارثة الزلزال الذي ضرب مدينة بم التاريخية، إذ يعتقد أن عدد الضحايا يصل الى خمسين ألف شخص، ولم تتأخر البلدان لحظة في استغلال الكارثة لعقد اتصالات دبلوماسية علنية هي الأولى من نوعها منذ قيام الجمهورية الإسلامية بعد انهيار نظام الشاه في العام 1979. بعد وقت قصير على وقوع الكارثة حطت طائرات عسكرية أميركية تحمل مساعدات طبية ومواد غذائية من مخازن الجيش الأميركي في الكويت. الخطوة السياسية التي تلت، كانت تخفيف العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على إيران كما أعرب وزير الخارجية الأميركي كولن باول عن أمله في أن ترى إيران هذه البادرة علامة على استعداد واشنطن للحوار معها. ولكن الرئيس بوش اشترط أن تعلن إيران تخليها عن برنامجها النووي وأن تسلم أعضاء (القاعدة) الذين تحتجزهم إلى الولايات المتحدة قبل أن تعمل الأخيرة في تعديل سياستها تجاهها. تشعر إيران أن واشنطن ليست مستعدة بعد للشروع معها في حوار جاد وأن كل ما تقوم به الهدف منه الإيحاء للشيعة في العراق أن الولايات المتحدة تعمل في مساعدة أقرانهم في إيران. وقال كمال خرازي وزير الخارجية الإيراني إنه يأمل في أن تواصل واشنطن سياسة التقارب التي تمارسها حاليا تجاه بلاده لأنها تساعد في خلق أجواء جديدة. وكشف الرئيس الإيراني السابق علي رفسنجاني المقرب من الزعيم الروحي علي خامنئي والمعروف بمناهضته الشديدة لأي تقارب مع الغرب عن أن الإشارات الإيجابية التي تصدر عن إدارة بوش، بدأت بالظهور منذ بضعة أشهر. ففي شهر يوليو الماضي قدمت الولايات المتحدة مساعدات إنسانية لضحايا زلزال صغير في إيران عبر منظمة (يونيسيف)، كما أصبحت الردود من إيران محددة أكثر وبصورة أكبر من السابق. فقد اعترف الرئيس الإيراني محمد خاتمي يوم 17 نوفمبر/ تشرين الثاني بمجلس الحكم المؤقت في العراق الذي شكلته واشنطن كممثل شرعي للشعب العراقي، ورد الأخير بالشكر على خطوة الاعتراف بقرار إبعاد جماعة المعارضة الإيرانية (مجاهدي خلق) عن الأراضي العراقية. وكانت هذه الجماعة شوكة في أعين شيعة العراق لأنها كانت تحظى بدعم النظام العراقي السابق ولأنها شاركت في إخماد انتفاضة الشيعة في مطلع العام 1991.
لم يكن في حساب أحد أن حرب العراق بالذات ستحقق التقارب بين واشنطن وطهران. الرئيس بوش غير مهتم بتصعيد النزاع مع إيران لانشغاله في حملة انتخابات الرئاسة، كما أن إدارته أصبحت على يقين بأن الاستقرار لن يتحقق في العراق من دون الشيعة وتدعو الحاجة الى أن تحسم واشنطن الوضع بالسرعة الممكنة بالتعاون مع إيران صاحبة النفوذ على قادة الشيعة.
من دون شك أن إيران حريصة على تحقق الاستقرار في العراق كما هي حريصة على لعب دور في محاربة الإرهاب كي يجري شطب اسمها من قائمة محور الشر. بعد أن تغيرت الموازين الاستراتيجية في المنطقة لم تعد إيران تشعر بخطر على الحدود الغربية مع العراق، والمرجح أن انتخابات عامة ستساعد في مجيء حكومة عراقية تهيمن عليها الغالبية الشيعية، والمؤكد أنها ستكون موالية لإيران. وستولي إيران عناية أكبر الآن لحدودها الشرقية مع أفغانستان إذ يتسلل عبرها أعضاء (القاعدة). وكان الإيرانيون يرفضون تسليم أعضاء (القاعدة) الذين تعتقلهم سلطات الحدود، إلى بلدانهم الأصلية بحجة أن هذه البلدان تتعاون مع الولايات المتحدة. وفي 11 ديسمبر الماضي أعلن خاتمي لأول مرة أن بلاده مستعدة لتسليم أعضاء (القاعدة) الذين تحتجزهم وعددهم نحو 130 إلى بلدانهم الأصلية. ويشاع أن ملك الأردن عبدالله الثاني وضع معادلة تنص على تبادل معتقلي (القاعدة) بمعتقلين ينتمون إلى تنظيم (مجاهدي خلق). ويلاحظ المراقبون أن واشنطن بدأت تغير سياستها تجاه إيران بعد أن نصحت الأخيرة رئيس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق محمد باقر الحكيم بالتعاون مع إدارة الحكم التي يتولاها بول بريمر، وهي الخطوة التي اقتنعت واشنطن بسببها أنه بالإمكان التعاون مع شيعة العراق وأن شبح الخميني لم يعد يسدل ظله عليهم.
أمضى الحكيم وقادة المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق سنوات طويلة في المنفى الإيراني، ولهذا كان يعتقد أنهم سيعملون بما تمليه طهران عليهم، لكن هذا لم يحصل. وكان في حساب الحكيم أن الأميركيين سينسحبون من العراق بعد الإطاحة بنظام صدام وسينجح الشيعة في ملء الفراغ السياسي، حتى أن الزعيم الشيعي مقتدى الصدر تجنب الدخول في مواجهة مع الأميركيين .
وبحكم المصالح المشتركة في العراق وفي مواجهة (القاعدة) محكوم على واشنطن وطهران أن يتعاونا معا. ووفرت كارثة بم الفرصة للحوار، وكلاهما يقر بعاملين: أن الجمهورية الإسلامية في إيران تحتاج إلى إصلاحات عاجلة، وثانيا أن إيران تخلت عن سياسة تصدير الثورة، وعوضا عن ذلك ينادي الرئيس خاتمي بحوار الحضارات. وساهم شخصيا بنشر الوفاق مع جميع الدول العربية وخصوصا في الخليج. في الوقت الذي أصبحت الولايات المتحدة صاحبة نفوذ واسع في العالم العربي بارتباطها باتفاقات دفاع استراتيجي مع أكثر من دولة عربية، الأمر الذي حجم القوة الإقليمية لإيران، والحليف الوحيد لها سورية الضعيفة عسكريا.
ولا تقف «إسرائيل» بعيدة عن مراقبة التطورات الجارية على المسار الأميركي الإيراني، فهي لها كلمة مسموعة في واشنطن تريد أن تشترط إدارة بوش قبل عودة العلاقات مع إيران أن تعلن الأخيرة تخليها عن دعم حزب الله والفصائل الفلسطينية الأخرى، وأن تقر بما يصفه الإسرائيليون بحق الدولة العبرية في البقاء. ولن يكون بوسع بوش إعادة العلاقات الدبلوماسية مع طهران من دون أن تلبي الأخيرة الشروط الإسرائيلية. وتأجيل عودة العلاقات حتى مرحلة ما بعد انتخابات الرئاسة يفيد الجانبين الأميركي والإيراني، فالرئيس بوش في حاجة ماسة الى دعم اللوبي اليهودي لضمان الحصول على ولاية ثانية
العدد 487 - الإثنين 05 يناير 2004م الموافق 12 ذي القعدة 1424هـ