العدد 487 - الإثنين 05 يناير 2004م الموافق 12 ذي القعدة 1424هـ

انتظروا قرنا آخر أيها العرب

وداعا مسيو ديغول!

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

كيف تتصرف أمم الأرض في موضوع القيادة وكيف تتصرف أمة العرب؟ ولكن...هل هذا الموضوع قابلٌ للنقاش، مادمنا نحظى نحن العرب بأرفع أنواع القيادات التاريخية على الدوام!؟ وللناس الحق في عدم طرحه ماداموا يعيشون على الدوام مراحل تاريخية وحاسمة ومصيرية، بينما تسير أمم الأرض وهي خالية الذهن من مثل هذه القواعد البلاغية في قاموس حياتها. وإذا وُجِدت فمن باب الاستثناء، أيام الحروب والمحن الكبرى، أما نحن فأمةٌ مستنفرةٌ على الدوام، شاءت أم أبت!

وإذا كان أحد مصادر بلائنا في القمة، فإن في تجارب الأمم الأخرى ما يلهمنا بعض الدروس في كيفية قيادتها لنفسها، من دون بلاغات كاذبة ولا دعاوى ساذجة. تجربة الانجليز لها دلالتها المهمة، إذ خرجوا من الحرب العالمية الثانية بدولة مترنحة بالكاد تقف على قدميها. خرجوا من الحرب منهكي القوى وهم يدينون لرئيس وزرائهم ونستون تشرشل بكل التقدير لموقفه الحاسم في تحديد مصير المعركة وتحقيق النصر، ولكن حين جاء زمن السلم قالوا له وداعا مستر تشرشل، ولم يطنطنوا بأغنية «بطل الحرب والسلام»!

وداعا مسيو ديغول

الفرنسيون لهم تجربة أخرى مماثلة، جرت في الفترة التاريخية نفسها، حينها كانت «جمهوريتهم» تستعمر نصف قارة افريقيا، وأجزاء أخرى من آسيا تزيد مساحتها على مساحة فرنسا نفسها. وفي غفلة من الزمن سقطت دولتهم واحتلت عاصمتهم في لمح البصر، وسلمت الحكومة الرسمية بقيادة رجل «سياسي» عجوز لإملاءات هتلر. وفي الخارج وقف رجل عسكري في إحدى المستعمرات البعيدة، ليقول: «لا للتسليم»، وليبدأ ملحمة الصمود ومقارعة المحتل وطرده، وليبقى اسم الجنرال شارل ديغول رمزا يعتز به الفرنسيون حتى اليوم، ويرونه رمزا لاستقلالهم وعزتهم وكرامتهم الوطنية. ولكنهم بعد الحرب قالوا له «وداعا مسيو ديغول»، فاضطر الجنرال إلى الجلوس حينا من الدهر في منزله حتى أعيد انتخابه مرة أخرى في وقت آخر. لم يمارسوا هوايتنا في الطنطنة بأغنية «بطل الحرب والسلام»، هذه الأغنية التي لا يعرفها على وجه الأرض غير الشعوب العربية المبتلاة من فوق ومن تحت.

الأميركيون لديهم تجربة أخرى قبل 12 عاما لا غير، نسوقها للعبرة مهما كان كرهنا لسياساتهم وعجرفتهم، فالرئيس بوش الأب على رغم ما يقال عن فشله في إسقاط صدام حسين العام 1991، فانه أنجز في اعتقادي ما هو أهم من ذلك، وهو معالجة الشعب الأميركي وتخليصه من «عقدة فيتنام»، ما انعكس على مجمل السياسة الخارجية الأميركية وتجلياتها في المغامرات التي شهدها العقد الأخير، من القرن الافريقي والبلقان وأفغانستان وانتهاء بالعراق، وما ستشهده العقود التالية أيضا. لو كان بوش الأب تقدم للانتخابات حينها أمام جمهور تحكمه العقلية الحماسية كالجمهور العربي لفاز بنسبة 99 في المئة، ولكن لأن الشعب هناك يفكّر في حياته ومستقبله وأداء الرئيس الاقتصادي وسياسته الداخلية، لذلك لم يمنحه ثقته مرة أخرى. ومن هنا يتوقع المرء سقوط بوش الابن على رغم ما حققه من إسقاط نظام طالبان والنظام العراقي واعتقال صدام حسين. الشعوب هناك تفكر وتختار، أما هنا فيغلبها الحماس وتسيّرها العواطف. هناك الرئيس الذي أوصلهم إلى النصر ينحّونه جانبا لانه قصّر في جوانب أخرى، وهنا تتسبب الأنظمة في كوارث وطنية ماحقة وفواجع قومية كبرى فتدعو إليها «الجماهير» بطول العمر، ويعلن مئات المحامين تطوعهم للدفاع عن «رمز عزة العرب وعنوان المجد القومي»!

حتى غرفة النوم

هناك تجرأت الشعوب لتقول لحاكمها: تفضل استرح جانبا، أما هنا فعندما تجرّأ أشجع حاكم عربي معاصر بإعلان تحمّله المسئولية في هزيمة 76 وقدم استقالته ليجلس في البيت لاحقته الجماهير إلى غرفة نومه ورفضت طلبه «غير المشروع» وأصرّت على بقائه، فهو رمز العز والكرامة والخلود. هناك يحكم العقل والحسابات الموضوعية، وهنا نظرية العواطف الجامحة وافرازاتها: «بطل الهزيمة هو بطل النصر»!

العقلية التي تتحكم في العربي هي نفسها فلا تأملوا أن يحمل لكم العام الجديد، ولا العقد الجديد، ولا حتى القرن الجديد... خيرا أيها العرب، مادامت أمم الأرض تحكمها عقولها، بينما تحكمنا قوانين الطوارئ، ونظرية «بطل الحرب هو بطل السلام»!

الإنجليز ببرودتهم، والفرنسيون بثقافتهم، والأميركان ببراغماتيتهم، أجمعوا على تغليب مصلحة الوطن على الإسم الرنان، فهل علينا أن ننتظر قرنا اخر حتى نقتنع بأن بطل الحرب ليس هو بالضرورة بطل السلام... كما انتظرنا نصف قرن حتى اقتنعنا بأن «الديمقراطية» أفضل من القمع وتكميم الأفواه؟

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 487 - الإثنين 05 يناير 2004م الموافق 12 ذي القعدة 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً