لم تتمكن تجليات الروح المتسامحة والعقلية الحضارية المنفتحة التي ظهرت في التاريخ الإسلامي عند بعض حركات التنوير العقلي من التغلب والانتصار على روح «الملك العضوض» ومشروع «الدولة - القبيلة» التي كانت – على ما ظهر لاحقا في أحداث وتواريخ ومشاكل وتحديات عصفت بعالم الإسلام والمسلمين - متأصلة في النفوس والأرواح وعصية على التغيير والإصلاح الحقيقي، والتي مثّلتها كثير من زعامات الحكم الإسلامي على طول مسيرة التاريخ الإسلامي.
وقد قامت «الدولة - القبيلة» التي أسستها روح القهر والطغيان وعقلية التغلّب والغصب في عالمنا العربي والإسلامي – والتي مازالت مستمرة بصور وأشكال شتى حتى عصرنا الراهن - بتحقيق كثير من المنجزات (العظيمة!)، نذكر منها هنا:
1 - بناء دولة الفرد وليس دولة الأمة، والعمل على إحداث قطيعة شبه كاملة بين الدولة والمجتمع ككل، الأمر الذي حول الدولة العربية الإسلامية (التاريخية والراهنة) إلى دولة نخبوية فوقية تخص النخبة السياسية الحاكمة، في تأمين متطلبات وجودها واستمرارها، بعد أن فشلت في مجرد التحول – استجابة لتغيرات الواقع - إلى دولة مواطنيها الأحرار الشرفاء، بل بقيت – بالنظر لبنيتها المؤسساتية الهشة - عاجزة كليا عن إقامة دولة العدل والمؤسسات والدستور، أي أنها لاتزال دولة منفصلة كليا عن المجتمع المهمّش، والمدمر، والمقصي، والمستبعد كليا عن ساحة الفعل والإبداع والإنتاج والتشارك الحضاري، والدليل على ذلك: انتشار مختلف مظاهر الاهتراء السياسي والاقتصادي والأخلاقي والديني الواسع في كثير من مجتمعاتنا العربية والإسلامية الحديثة، نتيجة هيمنة واقع الحطام واليأس وانسداد آفاق الإصلاح ونفاد الطاقات، وتعاظم المشاكل، واشتداد التوترات، وضعف إمكانيات التقدم والتراكم الأمر الذي أدى إلى استمرار المشكلات البنيوية وبقاء الأزمات، وتنامي آلية العنف المادي والرمزي.
2 - عجز الدولة العربية عن إقامة علاقات قانونية وطبيعية متوازنة مع الناس وعموم الجماهير الواسعة المستبعدة والموجودة خارج دائرة السلطة أو الحكم.
وقد قاد هذا النزوع السلطوي المجنون للنخب الحاكمة - في رغبتها العارمة للبقاء في الحكم واستمراريتها على رأس السلطة وتحكمها بمفاصل القرار من أقصاه إلى أقصاه - إلى تزايد الرغبة الشعبية في تدمير البنى الوطنية نتيجة انعدام حس المسئولية تجاه الوطن والقانون والنظام الاجتماعي ككل، ويبدو لي أن السبب الأساسي وراء هذا التوجه اللامسئول لدى قطاعات واسعة من الناس يعود إلى نزع السياسة من المجتمع باعتبارها فاعلية اجتماعية ومجتمعية حرة، ومجالا عموميا للمجتمع، وهي أحد أرقى الأشكال التنظيمية لوحدة المجتمع، الأمر الذي أدى إلى تغييب قسري كامل لدور هؤلاء الناس في بناء مجتمعاتهم والمشاركة في تحمل مسئوليات هذا البناء.
3 - انعكاس البنية الدولتية الهشة على الحراك السياسي الخارجي لتلك الدول إذ تتجه الأمور على هذا الصعيد – وكنتيجة لعدم شرعية النخب - إلى مزيد من الانكسارات والهزائم السياسية والاقتصادية والاجتماعية على مستوى فساد التخطيط السياسي العام والخاص، وعقم الممارسة السياسية العملية، وسوء استخدام العمل الإداري اليومي (تفشي الفساد الإداري). وبناء حداثة ديكتاتورية غير عقلانية مستهلكة، وغير قادرة على النمو أو الإنتاج.
4 - ضعف إمكانيات الإصلاح والتطوير ذاتيا وموضوعيا، بما فيها عدم وجود رغبة حقيقية لدى تلك النخب القبلية الحاكمة لتغيير أو إصلاح الواقع بنيويا، بل وعملها الدؤوب على مواجهة أي تغيير سياسي أو ثقافي يمكن أن يفكر فيه أبناء المجتمع ونخبته المفكرة.
والسؤال المطروح الآن: طالما أن ممكنات التغيير وآفاق الإصلاح السياسي العربي الراهن صعب ومعقد وشبه مستحيل، أليـس من الأجدى والأكثر فائدة الاشـتغال على بناء ثقافة الإصلاح والوعي الوطني الحقيقي المسئول بين الناس؟! أي إعادة الاعتبار لمفهوم حب الوطن وتعميق الحس الوطني المسئول بين الناس قبل النخب الحاكمة، فالناس تغيرت سلبا من حيث طبيعة استجابتها للعمل الوطني، وأضحت – نتيجة هيمنة قرون طويلة من الاستبداد السياسي والثقافي والمجتمعي - مستنكفة عن ممارسة السياسة وضعيفة الصلة والارتباط الحي بمعايير الفعل الوطني، وبالتالي غير قادرة على إحداث أي تأثير في السياسات القائمة والمطروحة والمفروضة عليها التي تخصها.
إنني أعتقد - إتماما للحديث السابق - أن الذي يعيق المسيرة عن التقدم في هذا الاتجاه حاليا، ويقف في وجه حدوث كل تلك الطموحات والآمال الواسعة في ولوج العالم العربي والإسلامي العصر الحديث - علميا وحضاريا وتقنيا - لا يقتصر على بعد أو مستوى واحد، بل يتعداه إلى جملة مسببات خاصة وعامة، ففي المجال الأول يمكن العثور في كثير من زوايا ثقافتنا الدينية والاجتماعية الموروثة على كم كبير من الأنماط الفكرية والأنساق التعبيرية العملية التقليدية التي تحولت إلى دين قائم بحد ذاته يعاند ويواجه قيم الدين الحقيقية على مستوى الفكرة والسلوك والتطبيق.
وهذا النوع من حالة اللاتوافق الثقافي ولّدت في داخل الأفراد المؤمنين بها والمنتمين إليها نوعا من التناقض اللامنظور بين الأعراف والعادات (التي أضحت نوعا من النصوص الدينية بحكم العادة والألفة والممارسة) وبين الواقع الخارجي المختلف كليا أو جزئيا عن تصورات الذات الفردية. وهذا بحد ذاته سيؤثر سلبا على حركية الفرد، ويعطل عنده حركة العقل والتفكير والإبداع، وسيحوله إلى مجرد آلة منفعلة غير فاعلة على الإطلاق.
وبالتالي لا نستطيع أن نحمل النخب الحاكمة مسئولية كاملة على هذا الصعيد... وبالطبع هي ليست حزينة على ضياع مجتمعاتها وبقائها في حالة من اللامستقبل واللاوعي؛ لأنها مستفيدة من بقاء هكذا أمور على ما هي عليه.
ولا شك أنها تعمل على تعميق تلك المشاكل والأزمات التي تواجه مجتمعاتها، إذ إن من يفكر بذاته وينعزل عن الناس وينغلق على همومه وامتيازاته ومكاسبه الخاصة، لا يمكن أن يفكر مطلقا بهموم وحاجات المجتمع إلا بالحد الأدنى الذي يحافظ من خلاله على وجوده، واستتباب المواقع، وثبات الأحوال على ما هي عليه.
من هنا تأتي مسئولية المثقف في أن يقوم بدور حامل المصباح الدال به على طريق الخلاص الفردي والجماعي، وذلك من خلال عمله على تنوير الرأي العام بكل ما من شأنه أن يساهم في بناء الوعي الفعال لدى أفراد الأمة لمواجهة وإسقاط ثقافة القطيع والامعية وتفكيك العقليات القبلية التي تسببت في تفشيل التنمية والتقدم، وتصحيح المفاهيم الخاطئة المتداولة عن السلطة وتوزيع الثروة والأموال، والمساهمة الفعالة في تمكين الأمة من ممارسة حق النقد البناء، ومواجهة محاولات تزييف الوعي الفعال بالحياة والواقع.
بهذا الوعي يمكن بناء نهضة حقيقية تسعى إلى التنوير والإصلاح، وتقوم أساسا على فهم الدين فهما صحيحا يتوافق مع العقل الحاضر، ويكون لعنصري الزمان والمكان حضور أساسي في مجمل اجتهاداته وتأويلاته. وبما يتناقض كليا مع ما نراه ونعاينه في عالمنا العربي والإسلامي حاليا، من انتشار أفكار الشعوذة والعادات والتقاليد والخرافة والأساطير، واعتبارها من صلب رسالة الإسلام، وهي ليست من الدين في شيء.
إن النهضة تقوم وتنبثق من خلال وجود رؤى فكرية للواقع القائم مع أفعال وإجراءات ميدانية لاستدراك سلبياته وبناء مواقعه المستقبلية، والمثقف هنا تكون وظيفته مثل الطبيب (طبيب حضارات) وعليه واجب تشخيص العلة، وهي واضحة ومكشوفة كما أسلفنا سابقا، ويمكن التعبير عنها مجددا من حيث أنها أزمة ثقافية ومعرفية بامتياز قبل أن تكون أي شيء آخر، وبمقدار ما يكون تشخيص أسباب المرض عميقا وصحيحا، بمقدار ما يكون وصف الدواء المناسب سهلا وناجحا، وبمقدار ما يكون الشفاء منه أمرا ممكنا
العدد 2704 - السبت 30 يناير 2010م الموافق 15 صفر 1431هـ