ما نَشَرته صحيفة «الاندبندنت» البريطانية يوم السبت الماضي يبقى «غريبا بامتياز». الصحيفة المذكورة أشارت إلى أن شركة إيه تي إس سي البريطانية المتخصصة في إنتاج المُعدّات الحساسة باعت أجهزة كشف للمتفجّرات والعبوات الناسفة بقيمة 85 مليون دولار.
ولأن الأجهزة المباعة معطوبة ولم تكُن تعمل، فقد استطاعت السيارات المُفخّخة، والعبوات من النفاد، الأمر الذي أدّى إلى مقتل المئات من العراقيين إن لم يكن أكثر. التفجيرات توزّعت في مناطق مختلفة من العراق، لكن معظمها كان في العاصمة بغداد.
الغريب بأن ثمن الجهاز الواحد (حسب قول الصحيفة) يصل إلى ستين ألف دولار، وأن قيمته تضاعفت لاحقا بسبب قيام مدير عام الشركة جيم ماكورميك بدفع عمولات «جانبية» لتمرير صفقات شركته لوزارة الدفاع العراقية.
ما يعنيني هو ليس ما ينضح من الولايات المتحدة أو بريطانيا. فوصفتهما «احتلال» إن قاما أو قَعَدا لا أكثر ولا أقل. المناقشة تكمن في وصول العراقيين إلى هذه الحقيقة. حقيقة أن بَلَدَهما مُحتل، وأن الراجلين بسلاحهم على ترابه هم محتلون.
الغريب أن تجارب بعض الساسة في العراق مع الاحتلاليْن الأميركي والبريطاني لم تُوصلهم بعد إلى هذه النتيجة. ليس بالتأكيد أن يكون ذلك واضحا بالمطلق، لكنه على الأقل يبدو رجراجا إلى حد ما.
سألتُ عراقيا يعمل في إحدى المؤسسات الإعلامية المرموقة. هل العراقيين أناسٌ قوميين؟ وقبل أن يجيبني قلت مُعقّبا: عندما ألتقي بعراقيين في السلطة أو في الأحزاب السياسية لا أجد أن مؤشّر البوصلة لديهم واضحا في تشخيص العدو. مرة يُشيرون إلى الإرهاب ودول الجوار الداعمين له، وطورا آخر يقولون الاحتلال.
قال: إن كان ذلك الخلط موجودا عند الطبقة السياسية الحاكِمة، فهذا يعني أن هزيمة معنوية اجتاحتهم حيال ما هم قائمين عليه، وما يستولدونه فكرا وممارسة يومية. هو يرى أن هذا الخلط هو تطور جيد نحو الأفضل. والأفضل من وجهة نظره هو عدم الاعتقاد كما ينبغي بالمحتل وبمشروعه.
خَتَمَ إلى نتيجة قاطِعة، يجترّ جزءا منها من التاريخ القريب، وهو أن العراقيين أناس قوميون لا يرضون بالاحتلال والجيوش الغازِيَة. سترى هذا واضحا لدى الناس من خارج الوعاء السياسي، الذين هم أقدر على تمييز الأشياء بشكل غير منحاز. هكذا يرى.
كنت أقول من جانبي، بأن دروس التاريخ تختصر أزمان الشعوب. فهم ليسوا بحاجة لأن ينتظروا معركة بحجم «يينا» لكي يتخلّوا عن عدم تصوير الأميركي والبريطاني كـ «محتل» ملثما تخلّى هيغل عن تمجيد نابليون لاحقا.
لم ينهض شَرَرُ المقاومات ضد المحتل، يوما من الأيام إلاّ لتضادها مع اليقين الوطني، الذي وإن كَبَا بفعل السياسة المُنحطّة في الداخل نهض إلى جانبها ضد من يعتقد بأنه عدو أشمل، بالضبط كما فعل الفلاحون مع الملكية والكنيسة ضد الغزو الخارجي في أوربا.
لقد فعل ذلك أهل الجنوب الإيطالي، وكذلك فعلت المقاومة الإسبانية والروسية ضد الفرنسيين، الذين قادوا الحملات العسكرية تحت شعار تحرير الدول الأوروبية من نير الملكية الرجعية ومن استبدادها المريع والإقطاعي.
ما يهمّنا في ذلك التاريخ ليس الاعتقاد بالاستثناء على حساب القاعدة. فحين تبادر دكتاتورية الهابسبيرغ وتُلغي نظام الرق، فإن ذلك لا يُلغي حركة الملوك والأباطرة ضد الحرية والانتصار لصالح نظم الاستعباد واجتياح البُلدان الرخوة.
غاية الأمر، أن خبر الاندبندنت هو التفسير الحقيقي لكل ما هو قبيح ينفثه الاحتلال. فالأمر فيه جانب من انتقال القيمة من البشر إلى السلع. والحريات الإنسانية إلى حريّة التجارة. وأخيرا نوازع الهيمنة عبر إبادة أكبر قدر ممكن من البشر.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 2701 - الأربعاء 27 يناير 2010م الموافق 12 صفر 1431هـ