لإمارة رأس الخيمة، بدولة الإمارات العربية المتحدة، نكهتها الخالصة. ليست نكهة المكان والتضاريس والطقس. نكهة الناس فيها امتزجوا بتلك النكهة، بروح عصية على الانقياد أو الترويض. روح فيها من الجموح ما هو خلاق. راس الخيمة التي رفدت المشهد الثقافي والإبداعي في الإمارات بأهم الأسماء، يأتي من بينها الشاعر عبدالله السبب، من دون أن أنسى عبدالعزيز جاسم، وثاني السويدي وآخرين. منذ أحمد راشد ثاني من «خورفكانه» وخالد بدر عبيد وعلي العندل وجمعة فيروز، ومريم جمعة فرج، وسلمى مطر سيف وآخرين، والمشهد الشعري والثقافي في الإمارات ينحو منحى تراكميا بنوعيته بالدرجة الأولى.
عبدالله السبب وإن أتى بعد جيل المؤسسين لنص شعري مغاير، ولغة خارجة على التكريس؛ إلا أنه في اللب من تلك الريادة وفي العميق من المشهد.
لم يكن اكتشافا بالنسبة إليه حين قال: «الكتابة تعينني على ضراوة الحياة»... إلى نص الحوار
أنت ممن أسسوا في الإمارات لنص تذهبون إليه بعفويتكم البالغة فيما أنتم مشحوذون بأدواتكم. ألا تسهم تلك الأدوات في إرباك تلك العفوية أحيانا؟
- نعم، لكنها أيضا تسهم في الحفاظ على ماء وجه الشعر... فلولا تلك الأدوات، ولولا ذلك الإرباك، ولولا ذلك التدخل، لانحرف النص من كونه شعرا إلى ما هو غير ذلك. وهنا تتحد هوية النص... إما قصيدة عمودية، أو تفعيلة، أو قصيدة نثر، أو هو أشبه ما يكون بنثر فني أو خاطرة. ولعلي أشير هنا إلى عفوية النص في بداية مشروع الشاعر بكل ما يحمله من ارتباك وبياض، إلا أن تلك العفوية تبدأ تدريجيا بالاختفاء من المشهد الأدبي إذا ما تمكن من أدواته وأصبحت له بصمته.
تظل واحدا من الأسماء الحاضرة في مشهد قصيدة النثر في الإمارات. هل فقدت القصيدة بوصلتها. هل انحسار منبرها جعلها في حال توافقية أحيانا ضمن تجارب هنا وهناك؟
- لا... بدليل هذا الزخم في الإصدارات الشعرية لقصيدة النثر من معظم الجهات الثقافية، بدءا من اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، مرورا بوزارة الثقافة وتنمية المجتمع... سواء من خلال اتفاقيات النشر المبرمة بينها واتحاد الكتاب أو من خلال مشروع النشر الخاص بها، وكذلك الجهات الثقافية الأخرى ممثلة بهيئة الثقافة والتراث وغيرها، لكن ذلك لا يمنع وجود العدائية من أطراف لا تؤمن تماما بهذا الجنس الأدبي الشعري، ومع ذلك فهي تضطر مرغمة أحيانا في حضور المشهد الشعري العام الذي يضم كافة المدارس الشعرية.
حدثنا عن «جماعة الشحاتين» التي أسستها مع زملاء لك في راس الخيمة، إبراهيم يونس، أحمد العسم، أحمد منصور، ماهر العويد. ما الذي كنتم ترمون إليه؟
- كان ذلك في ديسمبر 1989م، وكانت الانطلاقة من خلال البرنامج الثقافي «نادي المستمعين» في إذاعة رأس الخيمة... هذا البرنامج الذي أخذ بالذبول والاضمحلال نتيجة الكتابات الباردة أو المنطفئة التي كان بعض الآخرين يرمون بها إلى مسامعنا التي لم تعد تقبل تلك الكتابات الخالية من الروح ومن المكنة اللغوية أو جزالة المعنى. فما كان منا إلا أن أعلنا ذلك الانقلاب وتلك الثورة الأدبية التصحيحية لذلك المسار العام، لكنه لم يكن بذلك الصخب الذي تحدثه الثورات السياسية أو ما تتبناه بعض وسائل الإعلام، إنما ذلك كان بلغة صامتة بليغة، استطاعت إيصال رسالتها من خلال التغير الكبير في مسار كتابات معظم أولئك المشاركين .
مرونتك في الانفتاح على أشكال الكتابة ينم عن تأسيس عميق. ما الذي يدفع بعض التجارب إلى الانغلاق، بل وتسفيه ما عداها من أشكال؟
- لأنها لا تؤمن إلا بنفسها وبمنهجها وبتوجهاتها... هي تجارب تقوم على النهل من معين أحادي الطابع واللون والنكهة، مما يعرضها للذبول والنضوب في أي لحظة. ثم... من ينغلق على نفسه، أو يقتصر حضوره على الجنس الذي يمارس فيه كتابته يكون معرضا تماما للدوران في حلقة مفرغة لا دبيب فيها ولا صدى.
«الرمس» برأس الخيمة مدينتك؛ حيث بيتك في منطقة «البطح» على مجاورة مع الجبل. راس الخيمة أطلقتُ عليها ذات حب بالإمارة الصخرية (في تكوينها) لكن ثمة شعرا وأسماء أنتجتها صخرية تلك الإمارة وبشكل مذهل. حدثني عن هذه المفارقة.
- للتوضيح ليس إلا... بالنسبة للرمس، فبيتي في «الفريج المياني» منها. وأما البطح، فهي منطقة سكننا في منطقة «ضاية» التي كنا نقصدها في الصيف قبل الكهرباء. ثم، شموخ الصخر وجبروت الحياة، سبب رئيس في ولادة الشعراء والمثقفين في هذه الإمارة المفطورة على ولادة العلامات البارزة في المشهد التاريخي. الشعر ابن بيئته، والبيئة معنية تماما باحتواء أبنائها أو بطردهم إلى ما هو غير ذلك... وبين الطرد والاحتواء تكمن رصانة المنتج الثقافي أو بلادته.
البحر هو الآخر رديف ومنبع للتجربة، بعيدا عن التوصيف المباشر لهذا الحيز. كيف تمسك ببحرك الخاص لحظة الكتابة، وخصوصا أنك ارتبطت به؟
- الذاكرة هي البحر الأكثر اتساعا من كل بحر أو محيط. الذاكرة بشغبها أو بصفائها، بضراوتها أو بسلاستها. الذاكرة التي تعيدني إلى طفولة الحياة أو إلى صباحات الكتابة. هذه الكتابة المعنية ببحرها البرتقالي وأسماكها الزئبقية، وهي التي تعينني على ضراوة الحياة وعلى ما يمكن جنيه من تجارة الخذلان بمستواه العام أو بطابعه الخاص الناجم من العلاقة القائمة على الشراكة مع الآخر الذي أنت باحتكاك دائم معه بوصفه شريكا معك في الحياة في كل بيئاتها وأوجهها.
تحدثت في لقاء أجراه معك عثمان حسن، عن صعوبة إيصال الصوت المحلي إلى خارج الإمارات. ثمة جهود تبذل على أكثر من مستوى. ما مرد تلك الصعوبة؟
- جهود متواضعة ولا تلبي طموح الحضور في المشهد الثقافي العربي العام. حركة النشر بدأت تزيد وتتنوع وهنالك تنافسات واضحة من أجل الظفر بالمخطوطات لنشرها وإصدارها، لكن، ما جدوى ذلك التنافس الذي لا يؤدي إيصال صوتنا المحلي إلى خارج الشرنقة الإماراتية. نحن بحاجة إلى انتشال المخطوطات من أدراج المثقفين وطبعها، عونا لهم على غول الغلاء الشرس وتشجيعا لهم لمواصلة مشروعهم الإبداعي بإنتاجية جديدة تضيف إلى المشهد الأدبي والثقافي... بالمقابل، نحن بحاجة إلى انتشال الكتب من عتمة الأرفف وغبارها كي لا تنسحق تحت وطأة الغبار الكامن على الأرفف ومن العتمة الجاثمة في غابة النسيان. ولعلك تصعق حين يصل إصدارك إلى بلد عربي بوساطة الأصدقاء، فتأتي دراسة لكتابك تخبرك بأن شعراء الإمارات المعروفين خارجا يقل عددهم عن أصابع اليد الواحدة وممثلة بالدكتور مانع سعيد العتيبة ليس إلا!! نحن نعول على جمعية الناشرين الإماراتيين للقيام بأدوار تدفع بالصوت الإماراتي إلى حلقة الإعلام العربي.
قلت بأن العالم الجديد صنع ذائقة جديدة. هل تمس تلك الصناعة الشعر ذاته؟
- من المؤكد أن الشعر كائن يؤثر ويتأثر، والشعراء أجناس بشرية لها تفاعلاتها مع مجريات الحياة بكل تقلباتها وآثارها... تجد مثلا مفردات جديدة دخلت إلى الحرم الشعري وإلى المضامين الشعرية الجديدة لم تكن في زمن ما، وهنا يأتي دور الشاعر الذي يستخدم تلك الألفاظ، فإما أن يوظفها بشكل لائق أو يقحمها في النص بشكل لا مبرر له... وهنا ندرك الحقيقة الشعرية لذلك المخلوق البشري... فإما أن يكون شاعرا، أو جابي كلمات من القواميس العربية أو سواها.
عودة إلى الثمانينيات - ما قبل تأسيس اتحاد كتاب وأدباء الإمارات - حدثت متغيرات كثيرة بعدها. المعطى المعرفي تنوع وتعدد لكنه لم يستطع أن يؤسس لحضور يضاهي فترة الثمانينيات. ما تفسيرك؟
- نحن الآن نعيش فترة اليوبيل الفضي للاتحاد الذي تأسس وأشهر في مايو/ أيار 1984م... هذا الصرح الثقافي الكبير الذي منذ تاريخ البدايات ذاك وحتى يومنا هذا، نظم العديد من الندوات الفكرية والأمسيات الثقافية والأدبية والعديد من الإصدارات في مختلف فنون الكتابة الأدبية والثقافية العامة، هو ذاته البيت الذي تخلى عنه معظم أعضائه منغمسين في دائرتهم الحياتية الاعتيادية أو منهمكين في مشاريعهم الثقافية والأدبية دون أدنى التفاتة نحو الاتحاد، وهو ذاته الذي حدت الإمكانات المادية البسيطة المتاحة له من تنفيذ المشاريع والرؤى والأفكار والخطط الاستراتيجية الثقافية التي يرمي إليها، وهو ذاته الذي تتعامل معه وسائل الإعلام بشيء من الإجحاف والتغييب، وهو ذاته أيضا الذي يعيش الآن في بيئة متأثرة جدا بعولمة العصر بما يؤكد أن معطيات تلك الفترة مختلفة تماما عن معطيات العصر الحالي... ولعله من أجل ذلك، نظم مركز الخليج للدراسات بدار جريدة الخليج ندوة تحت عنوان: «اتحاد كتاب وأدباء الإمارات: الواقع والطموح»... فهل سيتمكن الاتحاد من تأسيس حضور جديد يضاهي حضوره الذهبي في فترة الثمانينيات؟ ذلك ما نتمناه.
تعيش الصحافة الإماراتية إشكال طغيان الحضور العربي بكثافة بالغة، ما لا يتيح للتجارب المحلية أن تحتل مكانتها اللائقة من دون التورط في مساحة تمييزية. سؤالي هل أخذتم حقكم من تلك المساحة المفتوحة على العالم باعتبار الإمارات تحولت إلى «كوزموبوليتان».
- كافحنا كثيرا من أجل أن يكون لنا صوتنا في الداخل، من أجل أن تكون لنا خصوصية الكتابة وحرية الرأي، لكن ذلك لا يمنع أن الصعوبات مازالت على قيد الحياة، وأننا مازلنا نبحث عن حقنا الطبيعي في أحقية النشر دون أن يكون ذلك إلغاء للآخر الذي نكمل معه صورة المشهد الثقافي الأدبي في دولة الإمارات وبالتالي في صورة المشهد الثقافي الأدبي العربي العام... إلا أن شيئا ما يجب أن يقال: كلما كنت في موقع ثقافي، كلما كان الإقبال عليك شديدا من قبل وسائل الإعلام، وبخاصة المقروءة منها... وأما من يتنحى عن قليل ولو قيد أنملة عن موقعه الثقافي بسبب أو بآخر، فإنه معرض كثيرا لانحسار وسائل الإعلام عنه، إلا ذلك الفطن الذي يدرك كيف يكون محط أنظار الصحافة.
هل مازلت ترى المشهد الشعري في الإمارات في أوج عافيته؟ هذا ما صرحت به لسلمان كاصد في ملحق «الاتحاد الثقافي». ما هي شواهد تلك العافية؟
- نعم، مادام هنالك شعراء مخلصون لذواتهم ولقصائدهم. ولعل هذا الكم الهائل من الإصدارات الشعرية بين حين وآخر، وفي كافة جهات النشر في الإمارات، ومادامت هنالك أجيال تتعاقب، ومادامت قضايا تؤرق، فحتما سيكون الشعر في أوج عافيته، وفي قمة انتصاره على الألم الذي يدفعنا إلى مزيد من الأمل ومن السعي نحو امتلاك زمام القصيدة القادمة على متن الريح.
العدد 2701 - الأربعاء 27 يناير 2010م الموافق 12 صفر 1431هـ