المتتبع لحال الأغنية الشعبية وكلماتها يستطيع أن يكتشف بسهولة أن هذه الأغنية قد أصيبت بهبوط حاد في الأخلاق والذوق العام، وإلا بماذا تفسر هذه الكلمات التي تنتشر هنا وهناك، بشكل تعدي حدود الظاهرة إلى واقع يفرض نفسه وبالقوة.
لا أحد يصدق أن كلمات أغاني متداولة في سوق الكاسيت بين المستمعين بمثل هذا المستوى من الإسفاف... والسؤال هل هذا فن يراد به الارتقاء بذوق وثقافة المجتمع؟ أم هوة سحيقة تجذب المجتمع إلى الأسفل؟! وهل من رادع يضع حدا بعد الغناء للعنب والحمار والباذنجان والكوسة؟ أسئلة كثيرة نحاول أن نجد لها إجابات عند المختصين.
يدافع المطرب سعد الصغير عن أغانيه الغريبة مثل «بحبك يا حمار»، مؤكدا أنه قدمها في السياق الدرامي لأحد الأفلام موضحا أنه يرفض غناءها في الحفلات، لأنها كانت معدة للفيلم فقط وليس للأداء العلني في الأفراح والحفلات.
ويضيف سعد: عندما غنيت للعنب والبرتقال، كنت أهدف لنقل رسالة غير مباشرة لمن يحاربونني في الوسط الفني وعموما أنا أدقق الآن في اختياراتي وأعتقد أن كلمات أغنياتي مفهومة ولا تخدش الحياء ويسمعها الصغار والكبار من دون أن يشعروا بحرج أو إساءة لهم.
ويتفق معه الملحن والمطرب عصام إسماعيل الذي شارك الراقصة لوسي في دويتو غنائي، وقدم أغنية بعنوان «خلتها خل خالص»، مشيرا إلى أن هذه الأغنيات بسيطة وقريبة من قلب الجمهور لخفة ظلها ويجب التعامل معها باعتبارها «اسكتشات» غنائية وليست أغنيات بالمعنى المباشر. ويرى عصام أن أغنياته تعتبر تطورا عصريا لأغنيات محمد فوزي ومنير مراد مع اختلاف ذوق الجمهور ومصطلحاته.
السياق الدرامي«أنا مش عارفني» عنوان أغنية للمطرب الشعبي عبدالباسط حمودة الذي أكد أنه حقق نجاحا كبيرا بهذه النوعية من الأغنيات بين شرائح المجتمع المختلفة ويقول عبدالباسط: الجمهور «واع» ويقبل علي الفن الذي يحترمه أما الإسفاف، فلم أقدمه طوال عمري ولكنني أقدم أغاني تخدم الحدوتة الدرامية.
ويتفق معه الشاعر «إسلام خليل» أحد أشهر من كتبوا لشعبان عبدالرحيم وغيره من المطربين الشعبيين وعندما قرر الغناء ظهر في أغنية تحمل اسم «الكسكسي» ويرى إسلام أن الأغنية لا تحمل أية معان خادشة للحياء ولكنه يناقش ظاهرة الواسطة والمحسوبية واختار هذا المصطلح ليعبر عنها تماما، مثلما نستخدم مصطلح «الكوسة» للإشارة للمجاملات والواسطة في حياتنا.
وأضاف إسلام أنه قام بكتابة أغنية أخرى تحمل اسم «أبو أمك» تدعو لطاعة الجد مثل طاعة الوالدين، وتقول كلمات مطلع الأغنية «أبو أمك ده يبقي جدك احترمه زي أبوك» وأعجب بها المخرج أحمد البدري ووظفها في أحد مشاهد فيلمه الجديد «دكتور سيليكون».
ويرى الشاعر بهاء الدين محمد أن دور النقابة اقتصر على تحصيل الرسوم من الأعضاء دون أدني مسئولية للحفاظ على الذوق العام حين يقول: «الفن إبداع حر إلا إذا تعارض مع الآداب العامة وتعاليم الدين»، وعلى رغم أن مجرد النقاش في الموضوع للأسف بمثابة دفاع ودعاية من وسائل الإعلام لهؤلاء، فإن الممنوع مرغوب في موروثات الشعب المصري وهذا ما حدث في تلك الأغاني وعلى رغم احترامي لإسلام خليل، فكيف ينتقد الأوضاع بمباشرة صريحة في معظم الأغاني، ثم يلجأ لأسلوب التورية في أخرى ويضيف بهاء المونولوج أسلوب غنائي محترم له مواصفات خاصة لا تتوافر في غنائهم وسر نجاحهم هو عدم معرفة جمهورهم من البسطاء بالإنترنت، فبالتالي نسبة مبيعات شرائطهم هائلة مقارنة بالمبيعات الضعيفة لمطربين كبار تسرق أعمالهم على الإنترنت فقط في غياب متعمد من وزارة الاتصالات لصالح من؟ لا أعلم.
أين الرقابة؟
ويؤكد المنتج محسن جابر أنه يجب أن يكون للنقابة دور أكثر فاعلية من خلال القرابة علي الأغاني بعد طرحها بالأسواق لأن التحريف يأتي بإضافة بعض الكلمات والإيحاءات للأغنية وتصويرها بشكل مغاير لمعانيها تماما، ويقول محسن جابر: لابد من وضع الرادع لهذا التلاعب، كما أن تلك الأغاني نتاج الأفلام التجارية ولذلك يجب قصرها على الفيلم من دون عرضها عموما.
ويشير الملحن حسن إش إش إلى أنه يجب البحث عن مواهب حقيقية تملك المساحات الصوتية ولصناعة نجم بلون شعبي مختلف حتى لا تتوه وسط الزحام، كما فعل حكيم بظهوره بلون الغناء السهل الممتنع ولنبتعد عن الأغاني الراقصة المبتذلة التي انهارت معها الأغنية الشعبية، إن الغناء بالإسقاطات لا يتم بتلك الطريقة ،يجب استخدام ألفاظا أكثر رقيا من «أبو أمك» و«الكسكسي» وعلى الملحن وضع ألحان لا تركز على تكرار مثل تلك الكلمات بشكل متتال.
مبررات غير مقنعة
ويرفض الموسيقار حلمي بكر مبررات صناع هذه الأغاني، مؤكدا أنها لا تمت بصلة للأغنية الشعبية لأن الكلمات الشعبية من مفرداتها الحديث عن المرأة بصيغة المذكر منعا لخدش حيائها. كما أن هذه الكلمات المسفة تحمل إسقاطات جنسية وصناعها لا يملكون الثقافة لصناعة أغنية شعبية حقيقية، وانهارت هذه الصناعة بدخول غير المتعلمين والطبالين.
ويتساءل بكر: أين دور وزارتي الثقافة والإعلام والجهات الأخرى المعنية لمعالجة المهزلة؟
ويرى الشاعر عنتر هلال أن تلك الكلمات تعبر عن قاموس هؤلاء العشوائيين وأنهم يملكون براعة فائقة في تبرير أفعالهم لتشويه الأغنية وتحقيق المكاسب المادية الهائلة بعد سنوات من الفقر، وأنا اعتبرها جريمة تستفز أي مصري وخصوصا أن الأغنية وصلت لمسامع الأجانب وهدمت كل ما تبنيه المؤسسات الدينية لزرع الفضيلة في نفوس الشباب.
ويرى منير الوسيمي نقيب الموسيقيين أن هذه الأغاني ما هي إلا إيقاعات راقصة وليس لها قيمة وغير هادفة وعلى المستمع اختيار ما يريد سماعه وتعهد الوسيمي بأنه سيسعى جاهدا خلال الفترة المقبلة بالتعاون مع جهاز الرقابة علي المصنفات الفنية لعمل لجان استماع قوية لإبداء الملاحظات أو إلغاء الأغنية حتى نقتلع هذه الظاهرة.
العدد 2346 - الجمعة 06 فبراير 2009م الموافق 10 صفر 1430هـ