العدد 2699 - الإثنين 25 يناير 2010م الموافق 10 صفر 1431هـ

هل كان أصحاب الكراهية أقوياء أم «مجانين»؟!

نادر كاظم comments [at] alwasatnews.com

.

لنفترض أن أحدا من كتّاب الكراهية القدامى عاد، اليوم، حيّا يرزق بيننا، فهل نتوقّع أنه سيقدم على كتابة مؤلفاته المؤذية والمستفزة؟ وإذا كتبها فهل كان سيغامر بنشرها في كتاب مطبوع؟ وإذا غامر ونشرها فهل كان سيغامر، مرة أخرى، ويضع اسمه الحقيقي (لا المستعار أو المزيف) على صدر هذا الكتاب؟ سأسارع بالإجابة بالنفي عن كل هذه الأسئلة؛ وذلك ليس تشكيكا في جرأة أحد من هؤلاء ولا في جسارته، بل لأن ثمة مستجدات طرأت في السنوات الأخيرة وفرضت الكثير من القيود والضوابط والقواعد على إنتاج الخطاب - أي خطاب - وتوزيعه واستهلاكه في المجال العام. وصارت هذه الضوابط والقواعد عامة وملزمة للجميع من أكابر القوم إلى أصاغرهم، ومن أقويائهم إلى ضعفائهم.

لم يكن الإنسان، في أي يوم من الأيام، حرا بصورة مطلقة في قول كل ما يخطر على باله من أفكار ومشاعر مهما كانت قسوتها وجرأتها وصراحتها وقبحها وفضائحيتها وبذاءتها واستفزازيتها وإلحاديتها. ومهما بلغت جسارة المرء فإنه يعرف، في نهاية المطاف، أنه ليس «كل ما يُعرف يُقال»، وأنه لا يمكن «قول كل شيء ولا الحديث عن أي شيء في أية مناسبة، وأن أي شخص لا يستطيع أن يتحدث كيفما اتفق في نهاية المطاف»؛ والسبب، كما يقول ميشيل فوكو، أن «إنتاج الخطاب داخل كل مجتمع مراقب ومنتقى ومنظَّم يعاد توزيعه بموجب إجراءات لها دور في إبعاد سلطاته ومخاطره والسيطرة على حادثه الاحتمالي وإسقاط ما فيه من مادية راعبة وثقيلة» (جينالوجيا المعرفة، ص6). صحيح أن لدى البشر - إذا كان جهاز النطق لديهم سليما - قدرة على النطق، وصحيح أن كل البشر قادرون على الكتابة إذا ما تعلموها وأتقنوها، ولكن الصحيح أيضا أن جميع هؤلاء يعرفون جيدا أنهم ليسوا أحرارا بالمطلق في قول أو كتابة كل شيء وبأية طريقة تعنّ لهم، وفي أي مكان وفي أية مناسبة، بل ثمة قواعد وضوابط والتزامات وأعراف وطقوس على الجميع الخضوع لمتطلباتها لحظة إنتاج الخطاب، وإلا فإن المتاعب والعقوبات بمختلف درجاتها ستكون في انتظارهم مع أية مخالفة يقترفونها.

ولكن، هل كل البشر سواء في هذا الخضوع والالتزام؟ يمكننا التعميم هنا، إلا أن ثمة صنفين من البشر يمثّلان حالة استثنائية في تاريخ القول الحر وغير المنضبط، وهما: المجنون والقوي الشجاع الذي «يفيض قوة» وجبروتا. أما هذا الأخير فإنه، بحكم ما يتمتع به من قوة مرعبة وجبروت هائل وشجاعة وجرأة منقطعتي النظير، لا يمكن أن يخطر بباله أن يراعي أحدا حين ينتج خطابه قولا أو كتابة أو حتى إشارة، فليس ثمة من يجرؤ على الوقوف في وجهه لكبح جماح اندفاته الجسورة حين يتحدث أو يكتب، فكل قاموس السبّ والشتيمة واللعنة والوقاحة تحت يديه ورهن إشارته، وكل الضوابط والقيود تتزعزع أمام قوله وكتابته، بل هو من يضع القيود والضوابط، وهو من يقوّضها وينسفها متى ما أراد، إنه إنسان شبيه بذلك «الإنسان الفائق» الذي حلم به نيتشه، إنسان يتمتع، كما يقول نيشته، بـ «أخلاق السادة الأقوياء» و «الرجال الكاملين الذين يفيضون قوة» وحيوية حدّ العماء والعبث. أما «المجنون» فهو الوجه الآخر من هذه العملة، فهو، كما الإنسان فائق القوة، عاجز بطبعه عن استبطان أية سلطة خارجية في داخله، يقول ما يعنّ له دون قيد أو ضابط أو مراعاة منه لأحد أو لموقف أو لسياق، وكيف يراعي؟ ألا تتطلب المراعاة قدرا من الملكات والآليات العقلية للربط بين الأفكار والمواقف والشخصيات؟ ألا تتطلب استبطانا داخليا لمواقف الآخرين ومشاعرهم ولجملة القواعد والضوابط الخارجية المفروضة على إنتاج الخطاب؟ فإذا كان «المجنون» فاقدا لكل هذا، بل ضاربا به عرض الحائط، فكيف نفترض أنه، حين يهجم على القول بصورة رعناء وهوجاء، يستطيع أن يراعي مشاعر الآخرين ويقدّر المواقف ويحترم الضوابط؟

لم يقل أحد إن «المجانين» عاجزون عن الكلام، حتى ديكارت نفسه، وهو أب الحداثة العقلانية، كان يرى أن كل الناس - على خلاف كل الحيوانات - قادرون على «معرفة الكلام»، وترتيب «الألفاظ مع بعضها» لتأليف خطاب «يعبّرون فيه عن أفكارهم»، وهو لا يستثني من هذا الحكم «حتى المجانين، (و) من هم على حدّ من الغباوة والبلادة» (حديث الطريقة، ص322)، إلا أن «معرفة الكلام» لا تعني أن كلام هؤلاء «المجانين» سيكون ناعما ورقيقا ومتناغم الألفاظ، كما لا تعني أن كلامهم سيكون كأي كلام آخر يصدر عن العقلاء أو حتى عن من «هم على حدّ من الغباوة والبلادة»، بل هو، في الغالب، كلام أهوج وأرعن ولا يخلو من هذيان مدوِّخ. قد يقال إنه كلام لا يعتدّ به، ولكن هذه الرعونة الهوجاء في «كلام المجانين» هي التي تجعله في مصافّ كلام الشجعان الأقوياء الجبّارين الذين يفيضون قوة وحيوية ونشاطا، فهم يتحدثون بجرأة منقطعة النظير؛ لأنهم لا يكترثون بأي عرف أو ضابط، يقذفون كلامهم كما يقذف البركان حممه اللاهبة. ربما كانت هذه الاندفاعة اللامبالية هي التي جعلت «المجنون» الشخص الوحيد الذي «يجرؤ على قول الحقيقة» - وربما الحقيقة الوقحة والبذيئة والمزعجة والمؤذية - مهما كانت جارحة وقاتلة؟ وأنّى له أن يدرك أنها جارحة أو قاتلة؟ فإذا كان عاجزا عن الإدراك، فإنه عاجز عن تقدير المواقف تماما كعجزه عن التحكم في أفعاله والسيطرة على كلامه، فتراه، لحظة إنتاج خطابه المنفلت الهاذي، لا يتملكه سوى نزوع «جواني» جامح نحو الكلام والصراخ والثرثرة والهذيان كأنه يجد متعته الكبرى حين يتلاعب بالكلام كطفل يستمتع وهو يلعب بالنار أو بالسكين!

إلا أن المفارقة أن هذين الصنفين من البشر هما أقل الناس حاجة إلى القول والكتابة، فالمجنون الحقيقي (إذا استبعدنا مثال «المجانين» الذين يشير إليهم ديكارت، وإذا استبعدنا كذلك مثال المجنون المزيّف والمتصنّع الذي يتظاهر بالجنون) عاجز، إجمالا، عن الكلام، وإذا تمكّن من الحديث فإنه يصرخ ويثرثر بلغة أخرى مختلطة وغير مفهومة للآخرين، وحتى لو أحكم سيطرته على الكلام المفهوم - وهذا مجرد احتمال - فليس من المؤكد أنه سيتمكن من إحكام سيطرته على الكتابة، بل سيكون عاجزا، حتما، عن الكتابة لما تتطلبه هذه الأخيرة من مهارة عقلية متقدمة ليست في متناوله. أما القوي الشجاع الذي يفيض قوة فإنه لا يحتاج إلى القول أو الكتابة لأن ما يريده يتحقق بتحريكة جفن أو غمزة عين أو هزّة كتف، فلماذا يلجأ، إذن، إلى الكتابة؟ ثم إن الكتابة وسيلة تواصل، والتواصل لا ينعقد إلا مع آخرين. وهذا ما يجعل الكتابة مؤسسة على الحاجة إلى هؤلاء الآخرين، فالكتابة تحتاج إلى قارئ لا ليقرأ الكتابة فعليا بالضرورة؛ لأن ثمة مؤلفات كُتبت ولم يقرأها أحد، ولكن الكتابة تحتاج إلى هذا القارئ لإنجاز فعل التواصل. الكاتب، بهذا المعنى، محتاج، والكتابة، عندئذٍ، احتياج. والشجاع القوي والمجنون هما فقط من يتمتع بنعمة الاستغناء عن الجميع وعدم الاحتياج إليهم، فهما أعظم الناس اكتفاء واستغناء؛ لكونهما خارجين على نظام الحاجة الذي أقامه أفلاطون وأرسطو على طبيعة الإنسان الاجتماعية، وعلى حاجة هذا الأخير إلى «الحياة المشتركة» مع الآخرين. فبما إن الإنسان، كما جرى تعريفه، «كائن اجتماعي ومدني بالطبع»، فإنه كائن يحتاج إلى الآخرين بالضرورة، وهذه الحاجة هي التي جعلته «مدني واجتماعي بالطبع»؛ ولهذا يستنتج أرسطو أن من يبقى وحيدا خارج نظام الحاجة لا يمكن أن يكون إلا «إنسان ساقط أو إنسان أسمى من النوع الإنساني»! (السياسة، ص95). ويمكن أن نعيد صياغة عبارة أرسطو بأن نضع «المجنون» محل «الإنسان الساقط»، و «القوي الذي يفيض قوة وجرأة» محل «الإنسان الذي هو أسمى من النوع الإنساني»، ويمكن، كذلك، أن نعيد صياغة هذه العبارة، مرة ثانية، بأن ندمج الصنفين معا في صنف واحد، فيكون الاثنان، كما يستنتج نيتشه، حالة واحدة، وجهين لعملة واحدة. أليس القوي، كما يقول نيتشه، «بليد ومشوّش» وعاجز عن التفكير والتذكّر تماما كما كان في أصله الحيواني القديم؟ ألم يقل نيتشه إن «من يتوفر على القوة يستغني تماما عن الذهن» والتفكير والنباهة والذكاء؟ وإذا كان هذا صحيحا فإننا نكون، إذن، أمام صنف واحد من البشر الاستثنائيين، إنه الإنسان الذي يتمتع بـ «قوة الجنون» و «جنون القوة».

وبما إن الكتابة جزء من نظام الحاجة، فقد استغنى عنها هذا الصنف من البشر، وإذا ما استعملها فإنه يتعامل معها، كما يتعامل مع كل الأشياء، بلامبالاة وعبثية منقطعة النظير. هذا التعامل اللامبالي والعبثي مع الكلام والكتابة هو امتياز هذا الصنف من البشر، في حين كان جميع الناس العاديين محتاجين إلى الكلام والكتابة، ومضطرين للتعامل معهما بجدية واهتمام، وملزمين بالالتزام بالضوابط والقواعد المعنية بإنتاجهما وتداولهما. صحيح أن الناس يتفاوتون في درجة هذا الالتزام كلٌ بحسب قوته وجرأته ومكانته وزمانه ومكانه، إلا أن الصحيح كذلك أنه لا أحد قادر على الكلام والكتابة دون أي التزام، حتى عظماء الملوك وحكام الامبراطوريات العظمى في التاريخ لم يتمكنوا من التحلل من كل التزامات الكلام والكتابة وضوابطهما بصورة مطلقة، بل كانوا مضطرين للتقيّد ببعض الضوابط مراعاة لشعور ملك عظيم في الجوار، أو احتسابا لشعب يُخشى من ثورته حين يُستثار أو يُستفز. نعم، كانوا هم أكثر حرية من الآخرين بحكم جبروتهم وقوتهم، لكنهم لم يكونوا أحرارا بالمطلق وضاربين بعرض الحائط بكل قواعد إنتاج الخطاب وضوابطه.

ولكن هل ينطبق هذا الكلام على خطاب الكراهية؟ وهل كان ثمة ضوابط تحكم إنتاج هذا الخطاب وتداوله؟ وإذا كان ثمة ضوابط فهل نستنتج أن كتّاب الكراهية، حين جاهروا بكراهيتهم المستفزة، إنما كانوا أقوياء أو مجانين؟ وهل ينتج خطاب الكراهية خارج نظام الحاجة إلى الآخرين لتعزيز كراهيتهم أو لاستفزازهم؟ هل رأيتم أحدا ألّف كتابا في الكراهية وأبقاه حبيس الأدراج كيلا يطلع عليه أحد من الأتباع أو المختلفين؟ وللحديث صلة في الأسبوع المقبل ولنلقي الضوء على هذه الأسئلة.

إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"

العدد 2699 - الإثنين 25 يناير 2010م الموافق 10 صفر 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 6 | 4:37 ص

      هل القدماء كانوا عقلاء والمعاصرين مجانين

      لماذا تفترض يا دكتورنا العزيز ان كتاب الكراهية القدامي لن يغامروا بالتعبير عن كراهيتهم لو علادوا احياء اليوم هل لأنهم عقلاء، وهل اصحاب الكراهية المعاصرين اليوم مجانين؟ اذا كان الجواب نعم فانا اتفق معك

    • زائر 5 | 2:09 ص

      هناك صنف ثالث يجمع بين الجنون والقوة

      احسنت يا دكتور على هذه السلسة المميزه في موضوع نحن بأمس الحاجه لنعرف مدلولاته,
      هل تتفق معي يا دكتور بأننا وفي هذا الزخم من التطور والأنفتاح نعاني من نشر الكراهيات وبدون ظوابط فلا حسيب ولا رقيب على اناس يشغلون في اعلى المناصب التي تمثل الشعب وهو البرلمان, فهناك نواب للأسف الشديد يجمعون بين الصنفين, بين القوة والجنووون

    • زائر 4 | 1:45 ص

      كانوا مجانين

      من المستحيل يكون اصحاب الكراهية عقلاء لو كانوا عقلاء لخافوا على نفسهم ولا فكروا بالمنطق وجادلوا بالحسنى بل هم مخابيل يحرقون الأخضر واليابس بجنونهم

    • زائر 3 | 12:50 ص

      القوي المجنون العبقري

      كلهم يشتركون في تحطيم الضوابط , وممكن يتسببون في صنع واقع جديد , بسبب الكراهية للماضي كما فعل اتاتورك , أو للتخلف كما فعل ديكارت , وممكن تتحالف القوة مع الجنون لأنتاج خطاب الكراهية ذو الدوافع السياسية , فكل طرف يستفيد من الثاني ويغطي نقاط ضعف الاخر , فالقوة هي من تنتج للسعيدي خطابات الكراهية لأنه في النهاية المجنون غير قادر على الكتابة كما قلت , والمجنون مهما بلغت درجة جنونه يكون بحاجة لمن يحميه بقوته و ولمن يوصله للبرلمان.

    • زائر 2 | 11:25 م

      الى متى

      وكم بلغ حجم الكراهية وشكلها بعد ان فاق عدد المجنسين عدد سكان البحرين الاصلين بكل طوائفهم وبعد ان سلبوا حقوقهم وضيعوا هويتهم العربية بتحويل سكان البحرين الى هنود وباكستانين واخرين ممن لا يمتون لهذه المنطقة بصلة

    • زائر 1 | 11:21 م

      لدينا عمالقة من آل البيت (ع) في الاقتداء.

      كثيرون ألفوا كتبا وأدخلوا في أوساطها جمل من التحريف والتزييف وهي سبب النقمة على البشر فحين يمجد بعض الكتاب دكتاتورا من الناس ومجرما كمثل صدام ماذا يعني ذلك، وإذا سلمنا أنهم أقوياء بماذا بالبطش والقتل وذلك بانعدام الضمير وليس هم بمجانين إنه داء العظمة والكبرياء ولا زال من الكتاب من يتبختر ويتبجح بسطور من كلمات الإطراء لعفالقة من المجرمين حينما طالت يد العدالة مجراها فيهم بأنهم شهداء لا أدري كيف لكاتب مثقف تسطر يداه مجدا في قاتل ويبدو كل إناء بالذي فيه ينضح ويكشف عن بطانته.. نبيل حبيب العابد

اقرأ ايضاً