يبدو أن العلاقات الإيرانية البريطانية آخذة في التدهور. ففي التاسع عشر من الشهر الجاري أعلن وزير الخارجية الإيراني منوشهر متقي أن بلاده تعتزم مراجعة علاقاتها مع بريطانيا في اثني عشر مجالا مختلفا «بما يتوافق مع المصالح الوطنية للجمهورية الإسلامية» (راجع تصريحات متقي لقناة برس تي في).
وهو أمر إن تمّ العمل به، فإن الأمور قد تؤول إلى معالجات بعيدة عن الدبلوماسية بين البلدين. وهنا مكمن الخطر. فالولايات المتحدة الأميركية تعتمد اعتمادا استراتيجيا على التواجد الدبلوماسي الأوروبي عموما، والبريطاني خصوصا على الأراضي الإيرانية، رغم أن الاتحاد السويسري هو من يقوم برعاية المصالح الأميركية في طهران منذ قطع العلاقات بين البلدين قبل ثلاثين عاما.
فالموضوع النووي الإيراني يحظى بأهمية غير عادية لدى الإدارات الأميركية المتعاقبة، وكذلك الدول الأوروبية. وهي تعتقد أن متابعته بشكل حثيث وبمختلف السياسات يتطلّب تواجدا سياسيا مزدوجا على كافة الصُعد.
ورغم الحاجة الأكيدة لذلك التواجد، إلاّ أن تباين المصالح بين طهران ولندن (وعدد آخر من الدول الأوربية) لم يترك للخيارات الناعمة والمستقرة مجالا واسعا للعمل بشكل سليم، وأحال معظم الملفات إلى مساحة سياسية مضطربة ورجراجة.
فمسيرة العلاقات بين لندن وطهران لم تكُن دافئة طيلة الأعوام السابقة، رغم أنها كانت كاملة التمثيل في معظم الأوقات، أو على الأقل كانت محل تنسيق مباشر حتى في أحلك ظروف العداء (أزمة تيري وايت في لبنان مثالا) نظرا لمحدودية المناورة من دون الخصوم.
ومنذ سقوط نظام الشاه محمد رضا بهلوي وتداعيات اتفاقية كامب ديفيد والغزو السوفياتي لأفغانستان، ثم الحرب العراقية الإيرانية وأزمة الرهائن في لبنان، ومرورا بحرب اليمَنَيْن ثم حرب الخليج الثانية أظهر الإيرانيون أنهم في قلب هذه الملفات، الأمر الذي دفع ببريطانيا لأن تولي هذا البلد أهمية توازي قدرته داخل الفعل السياسي الإقليمي والدولي، فعادت العلاقات على مستوى السفراء رسميا في العام 1999.
وبعد تفكّك الاتحاد السوفياتي مطلع التسعينيات، وانهيار مركز الدولة العراقية وانحسار نفوذها، سَمَحَ ذلك لإيران بأن تتخطّى رقاب الدول الإقليمية، وتُزاحم النفوذ الغربي في المنطقة، بعد أن استطاعت إقامة محاور ومرتكزات جديدة عبر التموضع في الملفين اللبناني والفلسطيني والعراقي لاحقا، فضلا عن ملف الطاقة.
ومنذ أزمة تعيين السفير البريطاني في طهران ديفيد ريدويه في فبراير 2002 وحتى مكالمة علي لاريجاني مع المستشار الدبلوماسي لرئيس الوزراء البريطاني نايجل شاينوالد والتي أسفرت عن الإفراج عن البحارة البريطانيين الخمسة عشر في أبريل/ نيسان من العام 2007، كانت العلاقات تسير عرجاء إلى حدّ ما، لكنها تُعبّر عن حاجة متبادلة، أو أحادية في بعض الأحيان.
وهي اليوم تبدو متوتّرة بشكل لافت، وأقرب إلى الصِدام منها إلى الرمادية فضلا عن الاستقرار، وخصوصا بعد الانتخابات الرئاسية العاشرة في 12 يونيو 2009 والتي أسفرت عن فوز الرئيس المحافظ محمود أحمدي نجاد، في تمرّد جلي على تاريخية العلاقة المُقامَة على قاعدة «الضرورات الخاصة».
وأمام الاعتقاد الأميركي الغربي بأن غياب إحدى أهم القوى الدولية (بريطانيا) عن التمثيل الدبلوماسي داخل إيران سيُبعد المراقبة الدولية عن النشاطات السياسية والعسكرية الإيرانية، وبين تنافر المصالح وما يتطلبه ذلك من فتح جبهات مختلفة الوزن، تصبح القضية مُعقّدة للغاية، وقابلة للمساومات.
طهران من جهتها تنظر إلى العلاقة مع بريطانيا، على أنها تكتنف جانبا كبيرا من الخصومة المساندة لواشنطن. وهي تنظر مثلا لعلاقاتها مع النمسا وسويسرا (اللتين تعتمدان في جزء مهم من طاقتها على الصادرات الإيرانية من الغاز والنفط) وكذلك إيطاليا على أنها أكثر ديناميكية، وهي أولى لأن يُحافَظ عليها.
وخلال الفترة المنصرفة اتّخذ الإيرانيون مجموعة من السياسات المضادة باتجاه لندن. وكأنهم بذلك يدفعون الأمور إلى ما هو أبعد من وسط المسار الذي كان مُتّبَعا، والأقرب إلى سياسة «حافّة الهاوية» والتي عادة ما يستخدمها الإيرانيون في ملفاتهم السياسية.
خلال الشهور الستة الماضية (وبالتحديد بعد الانتخابات الرئاسية) اعتقل الإيرانيون ثمانية من منتسبي السفارة البريطانية في طهران قبل أن يطلقوا سراح سبعة منهم. وساءت العلاقة أكثر بعد استدعاء دول الاتحاد الأوروبي للسفراء الإيرانيين المعتمدين لديها في خطوة تضامنيّة مع لندن.
وخلال تلك الفترة أيضا أعلنت الخارجية الإيرانية بأن السكرتير السياسي الأول بالسفارة البريطانية في إيران ألكس بينفيلد والسكرتير الثاني بالسفارة توماس بيرن كانا في مسيرة للمعارضة الإيرانية بشارع سنايي في العاصمة طهران بتاريخ 14 يونيو/ حزيران 2009.
وأن صموئيل مورجان الدبلوماسي بقسم العلاقات العامة في السفارة تواجد أيضا في مظاهرة للمعارضة بشارعي مطهري وشريعتي في اليوم التالي. وأن باول بلايمي نائب رئيس قسم التأشيرات في السفارة البريطانية شارك في مظاهرات ميدان فردوسي يوم 18 يونيو 2009.
وقد أدى ذلك الإعلان الإيراني إلى تدهور خطير في العلاقة بين البلدين وإلى طرد متبادل للدبلوماسيين في كلّ من طهران ولندن، الأمر الذي فتح الباب أمام تطورات ومفاجآت ليس آخرها الصراع الإيراني البريطاني على النفوذ في المنطقة (أفغانستان/ العراق مثالا).
المشكلة قد تصبح لدى الإيرانيين في أن خسارة بريطانيا تعني جنوحا دوليا أكثر صوب العقوبات. لكن المشكلة البريطانية (الأصعب) تكمن في حماية تواجدها العسكري والبريطاني في الجنوب العراقي المتاخم أصلا للأراضي الإيرانية.
فبعد فوز شركة النفط البريطانية (بريتش بتروليوم) لتطوير حقل الرميلة النفطي العملاق في الجنوب العراقي أصبح التحدّي الحقيقي أمام البريطانيين هو توفير أكبر مساحة ممكنة من الأمن لإتمام الصفقة بشكل جيد. وإذا ما أراد الإيرانيون إزعاج البريطانيين فإنه لن يكون صعبا في ظلّ النفوذ الإيراني القوي داخل الأراضي العراقية.
في كلّ الأحوال، إن التدهور في العلاقات البريطانية الإيرانية آخذ في التصاعد، في ظل اتهامات متبادلة وصلت لزاوية الأمن القومي، وكذلك في ظلّ الاستعدادات الأميركية الأوربية لفرض مزيد من العقوبات على طهران بسبب برنامجها النووي.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 2698 - الأحد 24 يناير 2010م الموافق 09 صفر 1431هـ
السبة التي ستواجه بريطانيا
السبة التي ستواجه بريطانيا هي اتفاقية سايكس بيكو ووعد بلفور والباقي أهون