لنتّفق على حقيقة باتت ناجزة. فحينما تشتغل مناشط الدولة الثقافية بلغتها القومية فهي بذلك تُحقّق قفزة نوعية في «التطوّر الوطني» الأشمل. هكذا قِيل. ثم (وهو الأهم) تتداخل هذه القومية بمرجعيات مسكونة وتاريخية تستند إليها (ومنها الدين) فتصبح أمنع.
وحينما يكبُر ذلك التطور، فإنه يتحوّل بشكل آلي نحو سياسات تعكس حقيقة انتماءات الشعوب والناس في ذلك المحيط الجغرافي. الأمر الذي يعني أن هناك تماهيا مشروعا ما بين تلك المعنويات الخاصة وبين المصالح العليا التي ستُجسّدها البراغماتية السياسية.
ما يجري في تركيا هو قريب من ذلك جدا. فالأتراك أصبحوا على سكّة أخرى تماما غير التي كانوا عليه قبل العام 2003. بالتأكيد ليس «التّمام» الديماغوجي بقدر ما هو تمامٌ مُركّب ما بين قومية ودينية وبراغماتيّة. وهو باعتقادي وجه مُعَادٌ في تركيبته النهائية لدى الدول وليس مُبتَدَعَا على الإطلاق.
في أوروبا نضجَت القومية الجماهيرية المضمرة من كُوَّة الدين. في التاريخ ما يفيد بذلك حقا. عرّف الأسبان أنفسهم بأنهم كاثوليك. والرّوس على أنهم أرثوذكس. وتركيا قريبة من ذلك الجوار. وهي تحدّثت مؤخرا، لكنها لم تنقطع جغرافيا عن أقرب نقطة أوروبية إليها، ربما تكون البلقان بعينها.
لقد امتزَجت قوميّة الأتراك مع موجة سياسية ترى أن موقعها من العلمانية الأتاتوركية بات «وسط مسار»، بالإضافة إلى إعادة تقييم وتقويم للمصالح الوطنية العليا، لكي تُصبح الصورة أكثر انسجاما مع تشكيلات المشهد الأخرى والرديفة.
في العلاقات التركية الصهيونية مثال حقيقي يعكس كلّ ذلك. فقد تبدّلت هذه العلاقات بشكل ملحوظ و»لم تعُد كما كانت عليه في سنوات ماضية» كما رآها رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، عاموس يدلين خلال جلسة للجنة الخارجية والأمن البرلمانية يوم 19 يناير الجاري.
ربما كانت الظروف التي أعقبت التسوية الحدودية بين الأتراك والسوريين، وأيضا التسوية التاريخية مع أرمينيا، ثم التمنّع الأوربي المتكرر لاستيعاب تركيا داخل أوربا، أسبابا وجيهة لكي لا تبقى أنقرة متشبثة بذات السياسات التقليدية، لكنها أيضا ليست المتغيّر الوحيد في كلّ ذلك. هناك متغيّرات أخرى نَشَطَت وتنشط في ذلك التحوّل كما قلنا.
«التشرّق» التركي كان موجودا على خارطة الدولة الأتاتوركية لكنه كان محبوسا. وعندما تنبّهت الحالة الدينية بعد فوز حزب العدالة والتنمية، وتحرّكت الحالة القومية بعد الاحتكاك بأوروبا (وربما القضية القبرصية)، وتبدّلت المصالح التركية جاءت ساعة الصفر للتغيير نحو الشرق.
ولأن تركيا دولة متقدمة، والاتجاه للشرق يتطلّب من الدول القوية التعامل مع أقسى الملفات فيه، فقد اتّجهت السياسة التركية صوب «محور الأزمة» وهي القضية الفلسطينية. فهي خزّان الأسهم السياسية في المنطقة، وكذلك الوعاء الذي يحوي أهم أوراق اللعبة الإقليمية والدولية.
ولأن القضية الفلسطينية هي قضية دينية بالأساس، فقد تعامل الأتراك معها بمنطق يُذكّرنا بخطاب الدولة العليّة المُتأسّسة قبل سبعة قرون، والتي تاخمت مواريثها تاليا مناطق الشام والعراق والحجاز والعراق، وبشكل طبيعي آسيا الوسطى.
بل إن الأتراك أصبحوا معنيين بالقضية الفلسطينية وكأنهم يجرّون الحال بأحوال اتفاقية سيفر، وسقوط السلطانية العثمانية التي ارتبطت بها أوّليات قضية فلسطين ووعد بلفور، وخصوصا الصفقة غير التّامة بين عبد الحميد الثاني والصهيونية المولودة من مؤتمر بال السويسري.
اليوم ينظر الأتراك لأنفسهم على أنهم جزء من الحل الفلسطيني. بل أكثر من ذلك جزء من حلول المشاكل المعقّدة في المنطقة عُموما ليس آخرها الملف النووي الإيراني وقضية تبادل اليورانيوم على الأراضي التركيّة كحلّ وسط لإنهاء الخلاف الغربي الإيراني.
بالتأكيد ليس «التشرّق» التركي يعني أن الدين أصبح المتغيّر الأمنع لدى الدولة التركية، بقدر وجوده ضمن مجموعة من المتغيرات التي تحكم السياسة الحالية. بل وحتى حزب العدالة والتنمية لا يدّعي أنه حزب إسلامي بمعنى انتمائه للإسلام السياسي، وإنما عبر إسناد انتمائه أيضا للاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان.
وربما كان الأتراك (وبالتحديد حزب العدالة والتنمية وقبلياته) قادرون على تحاشي الخلل البنيوي داخل المجتمع والدولة عبر التموضع الصحيح لكل هذه المتغيّرات الدينية والقومية والبراغماتية. فالمسافة بينها تبقى محسوبة بشكل دقيق، وخاضعة لميزان واضح وشفّاف.
ولأن الهدف الخالص للساسة الأتراك الجُدد هو تحويل تركيا من «دولة مواجهة إلى دولة مركز» كما كان يدعو من قبل أحمد داوود أوغلو فإن تشذيب المسارات والخيارات في ذلك تبقى معقدة وتحتاج إلى رصد متتالٍ ولحظي، لإدراك ما يجري.
المهم من كلّ ذلك أن التقدير العربي والإسلامي للمواقف التركية يجب أن يأتي متعقّلا وبحجم التغيير ومدياته. إذ من غير المعقول التعويل على سياسات تُركيّة وكأنها مدماك ممانعة وجبهة متقدمة يكفي لتحقيق نصر وغَلَبَة، ولا يُنظَر إلى العلاقات الاستراتيجية بينها وبين تل أبيب.
نعم... ما يكفي العرب والمسلمين في ذلك هو استثمارهم لمسار المتغيّرات التركيّة (القومية، الدينية والبراغماتية) والاستفادة منها في بناء سياسات عربية تحمل الكثير (أو حتى المقعول) من الديناميكية وسرعة اقتناص الفرص إقليميا ودوليا.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 2696 - الجمعة 22 يناير 2010م الموافق 07 صفر 1431هـ
المثال الواضح
الحقيقة التي اظهرتها تركيا هي ان مثل هذه السياسات ممكنة ولها تاثير كبير فاين انتم يا عرب
فهم الشعوب الغوغائية أولا
هو شيء محير فعلا، فجأة تذكر الأتراك أبناء عمومة لهم من العرب! تستطيع أن تفسر هذه الظاهرة، اذا استطعت أن تفسر وجود أكبر قاعدة عسكرية أمريكية في الشرق الأوسط في إحدى الدول الخليجية و التي أطلقت منها الصواريخ على العراق في 2003 و التي بها أيضا أكبر مد قومجي عروبي لمحاربة و جهاد و نحر الأميركان. شيء محير بالفعل.
تركيا تريد أن تسحب البساط من تحت إيران
طالما الأمر هو مجرد الإدلاء بالتصريحات الصاروخية و النارية، فالقصة ليست بتلك الصعوبة. السؤال الذي يطرح نفسه، هل تركيا مستعدة لنبذ اسرائيل نهائيا و مقاطعتها؟ و ما مصلحتها في ذلك؟ و تستفيد اذا كسبت ود الفلسطينيين و العرب و خسرت اسرائيل؟ صدق من قال أن القضية الفلسطينية نبع لا ينضب و تجارة لا تبور.