هذه التحولات الكبرى، التي بدأت منذ القرن السادس عشر، شكلت عتبة تاريخية مهمة وانتقالا من القرون الوسطى الى الازمنة الحديثة، وهي دالة على حقبة جديدة تشير الى ولادة عصر ومستقبل جديد.
منذ هذه الحقبة ابتدأ تصور التاريخ كتفاعلية متسقة خلاقة، واصبح الزمن معاشا في مواجهة القضايا التي تطرح نفسها، او كزمن يلاحقنا. ان «روح العصر» (Zeitgeist) هو احد المفاهيم الجديدة التي ابتدعها هيغل، التي تسم الحاضر كلحظة عابرة تستهلك نفسها في وعي التاريخ، وفي انتظار مستقبل مختلف.
يقول هيغل: «إن زمننا هو زمن ولادة وزمن انتقال الى حقبة جديدة. وإن العالم الجديد ينفتح على المستقبل ويولد حقبة تاريخية جديدة تستمر في كل لحظة من لحظات الحاضر الذي يولد شيئا جديدا». وإن الوعي التاريخي بالحداثة يتضمن تحديدا للحدود بين الزمن القائم والزمن الجديد، وتصبح الحقبة المعاصرة بداية للزمن الجديد الذي يبدأ مع عصر التنوير، ومع الثورة الفرنسية، باعتباره حدّا فاصلا يكون قطيعة بين الازمنة الحديثة والماضي. كما شكلت القطيعة انفصاما وتوقفا وإزاحة له من جهة، وثورة معرفية كونت تحولا مفاجئا وحادا في نظام المفاهيم والاشياء والعلاقات الاجتماعية من جهة اخرى. وبهذا فالحداثة ليست قطيعة مع الماضي فحسب بل هي إلغاء له وتوليد حركة طليعية متقدمة.
وبطلوع القرن الثامن عشر صاحب الحداثة مفاهيم جديدة ذات دلالات مازالت تحتفظ بجدتها وأهميتها حتى اليوم كالحرية والعقلانية والنقد والتقدم الاجتماعي وغيرها.
ويشكل مبدأ الذاتية، القاعدة الأساسية للحداثة في المجال الفلسفي الذي يعني أولوية الذات وانتصارها، حيث اصبح الانسان الحديث يرى صورته في مرآة يتمثل العالم من خلالها، واخذ يدرك نفسه كذات مستقلة ومتميزة عن الطبيعة، وهو ما دفع الانسان الى السيطرة على الطبيعة واخضاعها لمشيئته. كما اصبح الانسان يستمد يقينه من ذاته، وليس من عقيدة او سلطة، غير سلطة ذاته. وليس كما كان عليه الامر في القرون الوسطى.
وبحسب هيغل، فإن الحداثة شكلت ارتدادا الى الذات وكونت بنية علاقة مع الذات دعاها هيغل بـ «الذاتية» أو «الآنية»، أي حرية الذات، التي هي بشكل عام مبدأ العالم (الازمنة الحديثة) وشرحها بـ «الحرية» إذ قال: «إن مكون اهمية وعظمة عصرنا هو الاعتراف بالحرية»، ووصفها «بالروح، وحقيقة كونها بذاتها».
وكان ديكارت أول من أسس فكرة الحداثة الفلسفية بعد ان وضع مبدأ الذاتية (الكوجيتو): «أنا افكر إذا أنا موجود» كأساس للحقيقة وكقيمة مطلقة - وخط فاصل بين عالم الآلهة القديم وعالم الانسان الحديث - وجعله مركز الكون.
أما لابتننز (1646 - 1716) فهو أول من اسس الحداثة الفلسفية على مبدأ العقلانية، حيث قال: «إن لكل شيء سببا معقولا» وبهذه المقولة تفتحت ابواب العالم الحديث التي ساعدت الانسان على معرفة اسرار الكون والحياة والموجودات وكونت بديلا علميا وعقلانيا لسلطة الميتافيزيقيا القديمة. ومذاك اصبح العلم هو الموجه الذي يقود الفلسفة الحديثة وظهور مفهوم «الكلية» الذي يعني النظرة الشمولية العامة للاشياء.
كما ان العلم المموضع الذي اخذ يفك سحر الطبيعة، حرر في الوقت ذاته، الذات العارفة، واصبحت الحرية الذاتية للفرد التي قامت على هذه التصورات، تؤكد على حق الفرد في التمييز بين الافعال المتوقعة منه، فأخذ يلاحق الغايات ولكن بشرط انسجامها مع راحة الآخرين. وبذلك اكتسبت الارادة الذاتية استقلالا طبقا للقوانين العامة. وهكذا تجسدت الحداثة والعقيدة والدولة والعلم والفن والاخلاق في مبدأ الذاتية.
إقرأ أيضا لـ "ابراهيم الحيدري"العدد 2695 - الخميس 21 يناير 2010م الموافق 06 صفر 1431هـ
الاتجاه الفيبري المحدث
شكرا على الموضوع ولكن اريد معرفة الاتجاه الفيبري المحدث واريد معرفة علاقة ماكس فيبر بالحداثة