وأخيرا نشهد السقوط النهائي للكذبة الكبرى التي سوّقتها قوى التحالف لدى الرأي العام العالمي لتبرير حربها على العراق ضد الشرعية الدولية. فأمام الحقائق التي ترسخت على الأرض العراقية أقر التحالف بعدم وجود أسلحة دمار شامل عراقية أصلا، وهي النتيجة التي سبق أن توصلت إليها فرق التفتيش التابعة للأمم المتحدة عشية الغزو، ما يؤكد أن الإدارة الأميركية كانت قد اتخذت قرارها النهائي بشن حربها على العراق في أبريل/ نيسان 2002، على رغم معرفتها بعدم وجود هذه الأسلحة، ومن ثم تصميمها على تخطي مجلس الأمن والقانون الدولي في مسيرتها نحو الحرب. وكانت المؤشرات إلى عدم وجود هذه الأسلحة قد بدأت تظهر أمام الرأي العام بعد أسابيع قليلة من بدء العدوان ما حدا بالتحالف لأن يخرج بزعم آخر هو أن الحرب قد شنت من أجل تحرير الشعب العراقي من نظام حاكم مستبد، ومساعدته على بناء نظام حكم ديمقراطي يقوم على التعددية وحقوق الإنسان، بالإضافة إلى إعادة بناء البنية التحتية لعراقه المدمر.
وطبعا لم يذكر لنا التحالف الدور الذي لعبته حكوماته في تأييد الأنظمة المستبدة حول العالم، وفي تشجيعها للنظام العراقي على شن حرب مدمرة على إيران انتقاما من الثورة الإيرانية بعد الصفعة الأقسى التي وجهتها لهيبة الولايات المتحدة خلال أزمة الرهائن داخل السفارة الأميركية، وفي سكوتها على جرائم النظام العراقي طوال العقود التي سبقت غزو الكويت، بما فيها دعاوى إبادة الآلاف من الأكراد في حلبجة، وفي تورطها الشنيع في المجزرة الرهيبة التي أودت بحياة أكثر من مليون طفل عراقي من خلال الحصار الاقتصادي الخانق وغير المسبوق الذي فرضته على العراق باسم الأمم المتحدة لأكثر من عقد من الزمن، وفي تدميرها الفظيع للبنية التحتية العراقية وتراث العراق التاريخي والحضاري من جراء القصف الهمجي والنهب المتعمد والحقد الدفين.
وانكشف تماما الزعم المتعلق بنشر الديمقراطية عندما طالب السيدالسيستاني بضرورة إجراء انتخابات حرة تسلم بعدها سلطة الحكم إلى الحكومة المنتخبة، ما أربك سلطة الاحتلال وجعلها تبحث عن صيغة دولية تعفيها من تنفيذ هذا الاستحقاق. لذلك يبدو هذا الزعم كأنه محاولة فاشلة لتحويل الأنظار عن الأهداف الحقيقية للحرب على العراق وما أفرزته من فوضى صبغت واقعه بدم الآلاف من القتلى والجرحى المدنيين الأبرياء، وما تسببت به من انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان وترويع السكان وإهانتهم وهدم بيوتهم على رؤوسهم ناهيك عن الاعتقالات العشوائية والقتل المتعمد. ومن مظاهر هذه الديمقراطية تلك الحكومة العراقية التي انبثقت عن مجلس الحكم المعين على أساس الحصص الطائفية وتبوء نصيب الأسد من حقائبها الوزارية أبناء وأقارب أعضاء المجلس. وتحت سطح هذه الديمقراطية تم القضاء على المجتمع المدني العراقي وتفكيك مؤسساته وتغييب أطياف واسعة منه لتحل مكانها الجماعات التي لا يمكن أن تستجيب أيديولوجيا لمتطلبات التطور والحداثة والابعاد الحضارية، ما خلق واقعا من الاحتقانات الطائفية والإثنية التي شكلت في مجموعها بوادر الحرب الأهلية غير المعلنة.
ورأينا كيف أصبح برنامج إعادة إعمار العراق وسيلة سياسية للي الأذرع، وتطويع المعارضة الدولية الواسعة التي وقفت ضد الحرب، وتأمين المشروعات الرئيسية للشركات الأميركية، والسيطرة على احتياطي النفط العراقي، وفرض الأمر الواقع. وفي مدى قدرة التحالف على تنفيذ هذه الأهداف يكمن مدى نجاحه في تنفيذ الخطوة التالية من مخطط الإدارة الأميركية في إعادة تشكيل المنطقة العربية تحت شعاري الديمقراطية والحرب على الارهاب، مع استمرار وجوده العسكري في قواعد ثابتة تنطلق منها عمليات التنفيذ. غير أن للمقاومة العراقية والعربية المسلحة رأي آخر وربما الرأي الأخير.
ومع دوي فضيحة الكذبة الكبرى عن أسلحة الدمار الشامل العراقية لتبرير قرار الحرب القذرة على العراق، أخذت الإدارة الأميركية في البحث عن كبش فداء يدفع عنها الثمن ويوفر لها الغطاء السياسي، فكان قرار الإدارة بإطلاق عملية تحقيق عن مدى صحة ودقة المعلومات المخابراتية الصادرة عن وكالة المخابرات المركزية والمخابرات الغربية الأخرى بشأن أسلحة الدمار الشامل العراقية، ولكن مع استمرار موقفها بعدم تحمل مسئولية المعلومات المخابراتية الخاطئة إذا ما انعكست على قراراتها. لذلك من المستبعد أن يتطرق التحقيق إلى معرفة مدى مسئولية الإدارة السياسية في قرار الحرب على العراق. كما لن يكشف التحقيق عن ماهية الأهداف الحقيقية للحرب وتفاصيل خططها وخطوات تنفيذها بما فيها العمليات الخاصة بتضخيم المعلومات المخابراتية عن أسلحة الدمار الشامل وتسويقها بشكل مثير ومقنع في الداخل الأميركي.
والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة الآن هو: هل كذب رئيس الولايات المتحدة فيما يتعلق بأسلحة الدمار الشامل العراقية؟ وهل تم تقديم المعلومات المخابراتية له بالشكل الذي أراده لتبرير قراره بالحرب على العراق؟ وهل كان أشرار الإدارة من اليمينيين المتطرفين وحلفاؤهم من اللوبي الصهيوني في البيت الأبيض والبنتاغون هم الذين أداروا عملية جمع المعلومات الاستخبارية وإعادة صوغها ومن ثم تقديمها لصانع القرار بالشكل الذي يخدم أغراضهم، بعد نجاحهم في السيطرة على مراكز صنع القرار وبالتالي نجاحهم في وضع وتنفيذ خطة غزو العراق وتركيع العرب لحساب «إسرائيل»، والصهيونية العالمية، والشركات الكبرى المرتبطة بالمؤسسة السياسية الحاكمة؟ ولن تؤدي القيم السائدة داخل هذه المؤسسة السياسية الأميركية إلى نتائج موضوعية للتحقيق الذي لن يؤدي بطبيعته وشروطه المحددة إلى كشف الحقيقة لأسباب قد تعزا للأمن القومي وسرية المعلومات، ناهيك عن خطيئة كشف الحقائق قبل الانتخابات الرئاسية في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل
العدد 520 - السبت 07 فبراير 2004م الموافق 15 ذي الحجة 1424هـ