العدد 520 - السبت 07 فبراير 2004م الموافق 15 ذي الحجة 1424هـ

مجتمعات ثلاثة تحت سقف واحد

محمد صادق الحسيني comments [at] alwasatnews.com

لم ينقطع الجدل الساخن في المسرح العلوي للهرم السلطوي في إيران بشأن نوع «الديمقراطية» المراد تطبيقها في البلاد كنموذج للدولة الدينية المعاصرة منذ ان «تسلل» محمد خاتمي في لحظة حرجة من تاريخ الثورة الإيرانية إلى سدة مطبخ صناعة القرار فيها رافعا لواء «المصالحة» بين «الدين» و«الحرية» كطريق وحيد للدفاع عن مشروعية النظام السياسي الحاكم باسم الاسلام والجمهورية أمام أعين وانظار جيل الشباب الإيراني الثالث بعد الثورة.

السجال الأكثر توترا في تاريخ الثورة الجاري حاليا على هامش معركة الانتخابات البرلمانية السابعة واستحقاقات الذكرى الـ 25 لقيام الثورة الإسلامية دفع بهذا الجدل إلى أوجه وهو يكاد يُظهر البلاد وكأنها باتت منقسمة على نفسها على أكثر من صعيد.

الذين يعرفون إيران جيدا وقرأوا تاريخها الحديث بامعان يلاحظون ويسجلون أهم معالم هذا السجل التاريخي كما يأتي:

أولا: إن إيران من البلدان النادرة في الشرق الأوسط العربي والإسلامي التي وعلى رغم تعرضها لرياح عاتية من التدخلات الخارجية حتى اسماها البعض من أبنائها بنقطة تقاطع حوادث التاريخ فإنها لم تتعرض على رغم ذلك لتجربة الاستعمار الأجنبي المباشر أو انتداب القوى الكبرى المتنفذة لفترة زمنية مؤثرة.

ثانيا: كانت إيران من أوائل دول آسيا ان لم تكن الأقدم وفي الطليعة من الدول التي تأثرت بقوة بما عرف بنهضة «التنوير» الفكرية والثقافية القادمة من أوروبا والتي نتج عنها فيما نتج ما عرف بالنهضة أو الثورة الدستورية أو ما اصطلح على تسميته بـ «المشروطة» وذلك في وقت مبكر جدا من القرن الميلادي الماضي (1906م).

ثالثا: ظلت إيران وعلى رغم كل الرياح الآنفة الذكر السلبية منها أو الايجابية واحدة من أكثر الدوائر الاجتماعية «المغلقة» والصلبة التي لم تستطع عوامل الحداثة الخارجية بأشكالها المتعددة النفوذ إلى أعماق هيكلية الإدارة والدولة فيها ناهيك عن الوصول إلى أعماق المجتمع، ما جعل عوامل «التحديث» أشبه بالقشرة الخارجية المنقطعة عن دوائر البنى التحتية الاجتماعية ايا كانت صلابة تلك القشرة أو سماكتها.

رابعا: عرفت إيران دوما في الاتجاه العام في دورتها الحضارية المعاصرة بمثابة البلد الأكثر استقرارا بالمقارنة مع دول الشرق الأوسط الإسلامي والعربي لعب ولا يزال الدين الإسلامي والمؤسسة الدينية بشكل عام دورا قويا ومؤثرا في تحديد ملامح المجتمع العامة كما لعبت ولا تزال التقاليد والأعراف العريقة المتوازنة فيها منذ العصور القديمة والممتزجة بالحضارة الفارسية مرة والثقافات المحلية المتنوعة أخرى، وبالاسطورة دوما، دورا كبيرا ما جعلها بلدا دينيا وسطي الطباع سلمي السمات ميّالا باستمرار للاعتدال الا ما ندر، كامن يتوق لكل ما هو جديد بلهفة، لكنه متريث في اتخاذ الموقف النهائي منه لحين مرور موجاته الأولى والثانية والثالثة... إلى حين تستوي الأمور وتتبلور نهاياتها على سواحل الخلجان المحيطة به أولا!

هذه الصورة العامة لإيران المعاصرة كما اجملناها آنفا جعلت من بلاد «فارس» الحالية نسخة خاصة من «الشرق» الذي لطالما تحدث عنه الفلاسفة وعلماء الاجتماع باسهاب، متهمين اياه بـ «الاستبداد» الملازم لطبيعته! نسخة متمردة على الصورة النمطية «للشرق» لكنها لم تقطع جذورها من تربتها التقليدية الخاصة بها.

يكفي ان ننظر إلى المعركة الضارية الجارية حاليا بين من يطلق عليهم مجازا بالاصلاحيين وبين من يطلق عليهم مجازا بالمحافظين لنرى أن صناديق الاقتراع المتنازع عليها ليست موزعة اصلا فيما بينهما على مقاسات الأحزاب والجمعيات النقابية أو الاتحادات الطلابية أو سائر منظمات المجتمع المدني المعروفة بقدر ما هي موزعة في المحاصصة المتنازع عليها على قياسات الشخصيات الدينية أو «الوجاهات» الاجتماعية أو القيادات المناطقية أو القومية أو المذهبية أو سائر تقسيمات «المجتمع الأهلي» التي لاتزال ضاربة جذورها في عمق تركيبة المجتمع الإيراني.

ومع ذلك فإن المعركة عنوانها «مدني» تماما أي حصة كل واحد من تلك الرموز أو القوى الاجتماعية من صناديق الاقتراع. ولا ضير في ذلك كما قد يحلو للبعض ان يؤاخذ إيران عليه. فالقضية اعقد من حزبين متنافسين على صناديق الاقتراع! كما هي أكثر عمقا من مجرد صراع على النفوذ بين المؤسسات التقليدية والحداثية على اصوات الرأي العام ولا هي بالتأكيد مجرد صراع على السلطة يجمع كل طرف محازبيه وقواه وحلفاءه الداخليين والخارجيين ليطيح بالآخر ويأخذ منه ناصية القيادة.

فثمة رجل دين «تقليدي» الطباع والتواصل والثقافة الموروثة، تراه يخوض جدلا واسعا ومعركة جوهرية من أجل تثبيت اسس الديمقراطية «الغربية» المنشأ، فيما قد يقابله رجل من الافندية «غربي» الطباع وقد اجتاحته الحداثة بكل تفاصيلها اليومية وهو يخوض معركة اساسية من أجل الدفاع عن ثوابت «الحكومية الإسلامية» بمفهوم الخلافة التقليدي مثلا. وكلاهما تراه يستمد قوته النظرية وجمهوره احيانا، بل وربما حتى مشروعيته من المسجد والحسينية التي يصلي ويقرأ الدعاء فيهما أكثر بكثير مما يستمد قوته وزخم حملاته الانتخابية من منابع ومصادر مؤسسات «المجتمع المدني» الفقيرة أصلا.

نعم كل طرف له جماهيره، بل وصار له تراثه السياسي الخاص به، ومصادر قوته النافذة في نسيج المجتمع الايراني واقصد هنا «المحافظون» و«الاصلاحيون» غير انهما يخوضان المعركة تحت سقف واحد، لا يستطيع احدهما الخروج من تحته بسهولة الا وهو «الشرق الإيراني الخاص». لأن أي خروج مهما كانت دوافعه مخلصة أو مبرهنة نظريا وفكريا قد تعرضه ليس فقط لفقدان مشروعيته الوطنية والدينية، بل ومقبوليته الجماهيرية أيضا، فيصبح عاريا من أية حماية معنوية أو مادية.

هذه هي حال النخب الدينية السياسية والفكرية المتجادلة بشأن نوع «الديمقراطية» التي تريدها لإيران تحت سقف الجمهورية الإسلامية، محافظة كانت أم اصلاحية. وهو سجال في المسرح العلوي للهرم السلطوي، نعم فهو بات يملك قوى جماهيرية فاعلة ايضا لكن ذلك لا يمنع من التسجيل بأن «مجتمعا ثالثا» بدأ يتشكل منذ بدايات الالفية الثالثة يقف اشبه بموقف اللامبالاة من هذا «النزاع» من دون ان يعني ذلك ان امر الديمقراطية أو الدين أو الحريات العامة لا تعنيه. بل ربما على العكس تماما، لكنه يريد ان ينظر للأمور أو هو ينظر للامور بمنظار مختلف تماما عما ينظر اليه ابناء الجيل الاول والثاني.

فينما يخوض الجناحان المحافظ والاصلاحي معركتهما الانتخابية عبر صناديق الاقتراع وباسم القانون والدستور تراه يعيش في واد آخر غير مكترث ليس فقط بالمعركة، بل وبصناديق الاقتراع نفسها مفضلا تسجيل النقاط على الجانبين في مجال معركة الحريات الاجتماعية.

لقد قال ماشاء الله شمس الواعظين وهو صحافي إصلاحي بارز مثير للجدل طبعا، جملة معبرة عن هذا المشهد في احدى مجادلاته مع رئيس تحرير احدى الصحف المحافظة وهي: «انه وبينما ننشغل نحن بقراءة صحفكم اليومية (أي المحافظة) من أجل متابعة سياق المعركة السياسية ضدكم، فإن أولادكم منشغلون بقراءة صحفنا (أي الاصلاحية) من أجل صناعة تاريخ أو مستقبل ما بعد المرحلة الاصلاحية».

ثمة من يصف هؤلاء بالاكثرية الصامتة! بينما يصفهم آخرون بجيل الغد، أو الجيل الثالث لعصر الجمهورية الاسلامية الإيرانية، لكنهم في كل الاحوال مجتمع ثالث مازال يعيش تحت السقف نفسه الذي يعيش فيه المجتمعان الآنفي الذكر حتى الآن. ولكن هل فكر صناع القرار من رموز المجتمعين الاول والثاني في كيفية احتواء هذا الجيل الجديد والتواصل معه ومن ثم عواقب احتمالات انفلاته أو انقلابه على المجتمعين الاول والثاني اذا لم يلتفت اليه جيدا ما قد يهدد سقوط السقف على الجميع في ظل الانشغال المحموم بمقاعد البرلمان

إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"

العدد 520 - السبت 07 فبراير 2004م الموافق 15 ذي الحجة 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً