قبل أن تعرف البحرين الجامعات، كان هناك قلة من الأشخاص المتميزين المشهود لهم بالعلم والكفاءة لا يتعدى عددهم أصابع اليدين، حسبما أعلم، كنا نحرص على مناداة كل واحد منهم بالأستاذ عندما نخاطبهم احتراما لهم وتقديرا لمكانتهم العلمية والأدبية. كان يوسف الشيراوي، رحمه الله، واحدا من هؤلاء.
كان من حسن طالعي أن أتعرف إلى الشيراوي عندما كنت شابا يافعا منذ ما يزيد على 4 عقود في نهاية الخمسينات. كان المكان نادي العروبة في المنامة عندما كان النادي هو«النادي». كنت آنذاك طالبا في المدرسة الثانوية وكانت لعبة الشطرنج تشدني من بين جميع أنشطة النادي، كانت قاعة الشطرنج بالنادي على شارع الزبارة في القضيبية هي مكان التجمع. هناك تعرفت عن قرب على إبراهيم العريض، رحمة الله عليه، وعلى يوسف وثلة من خيرة الناس من بينهم السفير تقي البحارنة، والقاضي صقر الزياني، رحمه الله، والمرحومين حمد الصباح وحسين المسقطي. ومن بين الأحياء السيد محمد رشيد (بطل النادي)، أطال الله في عمره، إلى جانب بعض الشباب مثل كريم محسن وسعيد ضيف وإبراهيم الدرازي وغيرهم.
كنت أتحلق حول الطاولة مثل غيري أشاهد يوسف وهو يخوض المعارك مع خصمه المفضل محمد رشيد. ولصغر سني كنت ألتزم الصمت واستمتع بمشاهدة الأشواط من دون تعليق أوتدخل كما يفعل الكبار أمثال كريم وسعيد! استمرت الحال هكذا إلى أن أنهيت دراستي الثانوية وسافرت إلى القاهرة لألتحق بجامعة القاهرة. ومنذ أول إجازة صيف قضيتها في البحرين كنت من مريدي يوسف ومشجعيه. هناك عرفته عن قرب أكثر وتجرأت في البداية على التعليق على الحركات التي يقوم بها يوسف أو«رشيد». هناك نمت علاقتي بيوسف وكنت حريصا على لقائه عندما يزور القاهرة لحضور مؤتمرات الجامعة العربية.
عند تخرجي من الجامعة العام 66 قصدته في مكتبه في «السكرتارية» في رأس رمان آنذاك، بحثا عن وظيفة، فأشار علي بالتعليم. أخذت بنصيحته بلا تردد، ولم أندم على الفترة التي قضيتها في سلك التربية والتعليم فلقد أتاحت لي فرصة توسيع آفاقي ومداركي وحبي للبحث والتحصيل. وتشاء الظروف أن أعود إلى حقل التعليم مجددا في مسيرة حياتي هذه، والفضل هنا يعود ليوسف الشيراوي الذي وجهني هذه الوجهة.
عودة إلى الشطرنج. كان نادي العروبة بحق هو نادي الشطرنج في البحرين. وهناك نظم لنا يوسف أول بطولة داخلية في نهاية الستينات وكان لمحمد رشيد نصيب الأسد في حصد النقاط. بعد هذه البطولة، استمرت كبطولة داخلية لبعض الوقت إلى أن تجرأ النادي وقام بتنظيم أول بطولة مفتوحة للشطرنج في شهر رمضان المبارك. ومنذ ذلك الوقت ارتبطت هذه الرياضة الفكرية بنادي العروبة وبشهر رمضان. كانت قاعة النادي الرئيسية خلال ليالي الشهر المبارك تعج باللاعبين من مختلف الأعمار والجنسيات والمشارب. وكان الأستاذ يوسف الشيراوي راعي هذه البطولة دائما.
وتشاء الظروف بعد استقلال البحرين وتكوين الاتحادات والجمعيات - لم نكن حينها نعرف منظمات المجتمع المدني! - أن ينبثق أول اتحاد للشطرنج ويتخذ تسمية الاتحاد البحريني للشطرنج. كان الأستاذ يوسف هو مشجعنا وراعينا وموجهنا، بفضل توجيهاته ودعمه المادي والمعنوي انتشرت هذه الرياضة في البحرين وتخطت البحرين الحدود إلى المحافل العربية والدولية. من خلال الاتحاد نظمنا واستضفنا عددا من المؤتمرات واللقاءات العربية. كان للإتحاد البحريني للشطرنج شرف تنظيم أول بطولة للأساتذة على مستوى العالم العربي تهدف إلى إيجاد أساتذة دوليين كبار. كانت تلك خطوة مباركة وكان الأستاذ يوسف الشيراوي فارس الرياضة وداعمها.
إلى جانب الشطرنج الذي كان يوسف فضل عشقه، تعلمت منه ومن إبراهيم العريض حب المتنبي وشعره وكانت قاعة نادي العروبة العتيد وشرفته المطلة على شارع الزبارة ميدانا لأحاديث الأدب والسياسة والشئون العامة.
من خلال خدمته العامة التي تربوعلى نصف قرن، ترك يوسف الشيراوي إرثا في الإدارة والتنمية من خلال اقتراحه للكثير من المشروعات وترؤسه للكثير من المؤسسات جعلت منه بحق يستحق تلك التسمية التي كان يحلو للبعض أن يطلقها عليه «مهندس حكومة البحرين» إذ كان أول رئيس لدائرة الخدمات الهندسية ومن ثم وزيرا للتنمية والصناعة.
عندما يؤرخ للبحرين الحديثة ولتطورها في شتى الميادين، سيذكر يوسف الشيراوي بلا شك باعتباره واحدا من رواد نهضتها الحديثة. أما بالنسبة إليّ شخصيا فسيبقى واحدا من عشاق أفضل رياضة فكرية ابتدعها العقل البشري. وداعا للأستاذ يوسف الشيراوي أستاذا ومعلما وصديقا. ستذكرك رقعة الشطرنج فارسا من فرسانها وسيذكرك الشطرنج في نادي العروبة وستلوذ قاعته بالصمت الرهيب حزنا على من فارقته بعد عقود من صولات وجولات وذكريات جميلة. ليرحمك الله يا أستاذنا، عزاؤنا إننا عرفناك وستبقى ذكراك ماثلة كلما مررنا بذلك النادي الذي ارتبط بالشطرنج وكنت فارسه
العدد 519 - الجمعة 06 فبراير 2004م الموافق 14 ذي الحجة 1424هـ