تستعد إيران للاحتفال بذكرى ربع قرن على ثورتها. وفي هذه الفترة قالت الكثير وغيرت الكثير من الأشياء، ولايزال أمام الثورة الإسلامية ودولتها لتقول وتغير الكثير من الأشياء.
في المقاييس السياسية - الزمنية تعتبر الثورة في إيران الثورة الثالثة الكبرى في القرن العشرين. فالأولى كانت في روسيا خلال الحرب العالمية الأولى، والثانية كانت في الصين بعد الحرب العالمية الثانية، والثالثة كانت في إيران بعد نهاية حرب فيتنام وهزيمة الولايات المتحدة في جنوب شرقي آسيا. فالثورة الإسلامية في إيران تعتبر من الحركات السياسية الكبرى في زمن انفجرت فيه الثورة الصناعية الثانية في الغرب التي تعرف اليوم بالتكنولوجيا.
وأهمية الثورة في إيران أنها شكلت إشارة سياسية من خلال الرموز التي أطلقتها فزعزعت ثوابت وأنتجت أدوات تغيير من داخل العالم الإسلامي. فروسيا اعتمدت في ثورتها اللينينية على الانقلاب الذي أطاح بالسلطة من خلال تحريك قطاعات من الجيش بالتحالف مع الحزب البلشفي. والصين اعتمدت في ثورتها الماوية على حرب العصابات في الريف لتطويق المدن وإسقاطها واحدة بعد أخرى. فالأولى (الروسية) اعتمدت على المدن وانتقلت منها إلى الريف لتدخل في حرب طويلة انتهت بانتصار الجيش الأحمر على الأبيض. والثانية (الصينية) اعتمدت على الريف (الفلاحين) وزحفت منه إلى المدن التي كانت تشكل آنذاك بؤر الوجود الأجنبي المفتوح على البحر. وحين وصلت قوات الجيش الأحمر إلى الشواطئ توقفت مسيرتها ولم تعبر البحر حتى الآن إلى جزيرة فورموزا (تايوان) التي تراجع إليها الجيش الوطني.
إيران اختلفت في ثورتها عن الأولى والثانية. فهي بدأت من النص ومن ذكريات قديمة لتعيد انتاج القوة السياسية من خلال إعادة تفسير لنهج آل البيت انطلاقا من نظرية ولاية الفقيه التي أعطت صلاحيات مؤقتة لنائب الامام للتحرك ضد الظلم والاستبداد والخروج من دائرة الانتظار إلى ساحة الفعل.
إعادة انتاج النص شكلت المحرك السياسي للثورة التي حددت هدفها في اسقاط «الطاووس» رمز الظلم والاستبداد. فالثورة في إيران لم تبدأ من الريف إلى المدينة ولا من المدينة إلى الريف بل انطلقت دفعة واحدة من كل الجهات والاتجاهات. فهي أقرب إلى انتفاضة عامة كبرى اعتمدت فيها على تنظيمات تقليدية موروثة من جهة وهيئات مدنية وأهلية حديثة من جهة أخرى فكان الانقلاب التاريخي حين وقف المجتمع بهياكله ومراتبه في جانب ضد دولة الشاه في الجانب المقابل فاختل التوازن وسقط «الطاووس» في لحظة دولية مفارقة.
المفارقة الدولية جاءت على مستويين: الأول أن الولايات المتحدة كانت تمر في ظروف صعبة وإعادة تقييم لتجربتها المرة في فيتنام. والثانية أن الاتحاد السوفياتي وجد في إسقاط الشاه فرصة مناسبة لضمان أمن حدوده الجنوبية الممتدة من أفغانستان إلى تركيا.
أوجد هذا التوازن الدولي السلبي صعوبة في تحرك واشنطن بسبب وجود دولة كالاتحاد السوفياتي تراقب التحولات عن بعد. فموسكو آنذاك هددت إدارة واشنطن وذكرتها بوجود اتفاقات قديمة مع إيران تجيز لها التدخل في حال تعرضت لهجوم. وعند هذه النقطة دخل العامل الدولي في لحظة «توازن سلبي» انتهى بسقوط الشاه في ثورة عارمة وممتدة من أقصى إيران إلى اقصاها.
التحول الكبير أحدث هزة عميقة في المنطقة العربية والإسلامية إذ كل جهة فهمته بمقدار نظرتها إلى الأمور والمصالح والعلاقات وغيرها من رؤية للاسلام وتاريخه. ومع ذلك يمكن القول إن التحول أحدث الهزة السياسية التي وضعت إيران على خريطة العالم كقوة مضادة للمصالح الأميركية وتحالف واشنطن الاستراتيجي مع تل أبيب.
ومنذ تلك اللحظة جرت في النهر جداول كثيرة. فإيران منذ السنة الأولى مرت بأزمات وكوارث وصراعات واغتيالات وتفجيرات وحروب ومقاطعات وتطويقات، اضافة إلى حصار وكساد وديون وإعادة إعمار وغيرها وغيرها من مشكلات من الصعب حصرها لكثرتها. إلا أن المهم في كل ما حصل أن ثورة إيران تمتعت بحيوية دائمة أسعفتها في تكييف نفسها مع المستجدات والنجاح في اختراع الحلول لتطويق الازمات واحتواء آثارها السلبية. وبسبب هذه الحيوية تحولت إيران إلى نموذج لنجاح سياسة التوفيق بين الدولة والثورة انطلاقا من وعي دستوري لمسألة التقدم والتطور.
الآن وفي مناسبة مرور ربع قرن على ذاك التحول الكبير تمر إيران بأزمة دستورية عصفت بالتوازن الدقيق بين القوى السياسية التي تتركب منها الدولة. ولاشك في أن الأزمة الراهنة هي الاصعب لأنها تأتي من الداخل لا الخارج، بل يمكن القول إنه تم اختراعها وكان بالامكان تجنب حدوثها.
إيران الآن أمام امتحان صعب وهو ليس جديدا عليها ولكنه الأخطر لأن الفريق المنتصر فيه سيكون مهزوما مثله مثل الفريق المستبعد من المشاركة في الانتخابات. فهل تنجح إيران في إعادة تشكيل ثورتها وتحافظ على نموذجها أم أنها ستدخل في دائرة من الصراع الداخلي نعرف كيف بدأ ولكننا لا ندري أين سينتهي؟
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 519 - الجمعة 06 فبراير 2004م الموافق 14 ذي الحجة 1424هـ