هناك قضايا حساسة يخاف المرء طرحها لكن المرحلة تقتضي إبرازها وإلا يكون الكاتب تخلف عن مسئوليته حتى قد يصل أحيانا درجة الخيانة بتجاهله لتحمل شرف المهنة. وفي اعتقادي علينا ككتاب أن نتحمل هذه المسئولية مهما بلغت درجة المحاسبة والمخاطرة علينا، لأن من حق الوطن علينا ومن حق الجماهير علينا ومن حق الأسر الحاكمة التي عاش أجدادنا معهم على الحلوة والمرة وفي وفاق تام قبل أن تتعقد الأمور ويظهر النفط والتغيرات التي حدثت والاتساع الطبقي الذي فرضته الأوضاع الجديدة.
إن من حق هذه الأسر الحاكمة علينا أن نكون أمناء وصرحاء معهم من منطلق المحبة لا الكراهية، ومن منطلق الرغبة في استمرار حبل المودة بيننا وبينهم كما كان يربط بين أجدادنا وبين أجدادهم ولهذا آن الأوان أن نتصارح ونسقط الحائط الرابع الذي بيننا كما فعل الشاعر والكاتب المسرحي الألماني برتولد بريخت في مسرحه.
إن عدم المصارحة في مرحلة خطيرة كهذه، المنطقة كلها مستهدفة فيها وخصوصا منطقة الخليج بسبب هذا السائل الأسود الذي جعلنا محل غبطة أشقائنا العرب من دون أن ينظروا إلى جوانب النقمة فيه. يجب على مثقفي دول المنطقة وسياسييها الالتفاف حول حكامهم كما على حكام المنطقة أن يتقبلوا من المثقفين والسياسيين انتقاداتهم والتعرف على ملاحظاتهم وأخذها مأخذ الجد قبل أن (يفوت الفوت ولا يفيد الصراخ وطلب النجدة بالصياح ورفع الصوت). كم أتمنى على مثقفي الخليج أن ينظروا إلى عملية البحث عن تقريب المسافة بيننا وبين أسرنا الخليجية الحاكمة أكثر من تفكيرنا الخيالي في عملية التغيير الذي لا يعرف المرء نتائجه المستقبلية اعتمادا على الدعم الخارجي كما اتفق المشاركون في «منتدى التنمية» الأخير عليه محذرين من خطورة أن يأتي التغيير من الخارج.
كما على القيادات الخليجية أن تتنازل عن عقليتها السابقة وتصبح واقعية مهما تقلصت مكاسبها وقل هامش أرباحها وكما قال الناشط في المنبر الديمقراطي الكويتي أحمد الديين الذي شارك في المنتدى (على رغم التحسن النسبي في موازين القوى فإن السلطات الحاكمة لم تتخل عن أسلوب تفكيرها) أجل فإنه ليس من مصلحة هذه الأسر أن تواصل حكمها بأسلوب القرنين الماضيين.
إن من مصلحة الطرفين أن يتقربا ويقصّرا المسافة بينهما ويذيبا الجليد الذي يقف بينهما بحيث يتنازل الطرف الأول وهم مثقفو المنطقة وشعوبها عن نظرية التغيير التي قد تسبب خلافات أهلية وطائفية وعنصرية لا يعلم مداها إلا الله وحده ويتنازل الطرف الثاني عن الاستمرار في تعنته في حكم شعوبه بعيدا عن المشاركة الشعبية من خلال الخداع بخلق أوضاع شكلية يعرفون مسبقا أنها مرفوضة ولا تنهي ما في نفوس شعوبها وإداركها بأن ذلك مجرد لعبة قد يجامل البعض بقبوله على مضض ولكنه غير مقتنع به من الداخل وسينقلب عليه عاجلا أو آجلا عندما يكتشف أنه لا يشبع احتياجاته فها هو جلالة الملك يكتشف بنفسه كيف أنه من خلال تحقيق بسيط اتضح أن أخطر وأهم المؤسسات تعوم على بحر من الفساد والتجاوز المالي.
لهذا أجد أن يحمل المثقفون والكتاب شرف هذه المهنة ويطرحوا أفكارهم وآراءهم وملاحظاتهم بعيدا عن أسلوب التشنج والتجييش اللذين قد يسببان الخوف والتشكيك في النوايا. أذكر أنني عندما كنت صحافيا في دولة الإمارات ومراسلا لصحيفة «الاتحاد» بالإمارات الشمالية كنت أحس بإحساس غريب حين التقى الشيخ عبدالعزيز القاسمي شقيق حاكم الشارقة الشيخ سلطان بن محمد القاسمي الذي قام بمحاولة الانقلاب الفاشلة.. كان يلوح بهذه الرغبة وكان يقيني أن الإمارات كلها لن تجد بين حكامها عملاقا وديمقراطيا وحبا للعطاء والبناء وخدمة الشعب بكل توان بعيدا عن عقلية أفراد الأسر الحاكمة الخليجية التي تقدم مصالحها على مصلحة مواطنيها، ومع كل قناعتي بذلك لم أكن أجرأ أن أصارحه، بما يحدثني به شقيقه الذي لم يكن يشذ في عقليته عن عقلية أولئك الذين يريدون نهب المال العام.
وهذا ما أبديت ملاحظتي بشأنه في البداية إن الخوف من المصارحة أو التباطؤ في نقل القناعات إلى سمع القيادة الخليجية أو عدم تقدير الأمور بإعطائها صفة الجدية قد يسبب خطرا على الوضع ولو كنت قد صارحت سلطان القاسمي بما يدور في خلد شقيقه لكان فيه شيء من براءة الذمة لعنصر تدرك جيدا أنه الأفضل والأجدر و مقتنع بنقائه وعطائه وحبه لشعبه، لكن الظروف أحيانا لا تسمح بذلك وأنا كنت ضحية تلك الظروف. من هنا فإنني أصر على ضرورة أن نصارح قياداتنا الخليجية حتى لا نخون الأمانة والمسئولية الملقاة علينا من دون خوف من النتائج.
جلالة الملك يدرك قبل غيره أن المتغيرات الدولية والأقليمية والوعي الشعبي الذي بلغته جماهير الخليج اليوم لا يترك مجالا لاستمرار سيطرة العقول التقليدية على مقاليد الحكم لا لأن هناك عداء تقليديا بين هذه الشعوب وبينها بل لأنها شاخت ولم يعد عطاؤها يتناسب مع هذه المرحلة كما لا يتناسب والمستوى العلمي والفكري الذي بلغه الشعب اليوم ومن الرحمة بها أن تريح أعصابها وتستريح بعدما نفد ما عندها من إمكانات وطاقات تكون قادرة على موازاة وعي شعوب الخليج وطموحاتهم.
وعندما سألني أحد المحامين كيف يمكن تقريب المسافة بين المواطن الخليجي وبين أسره الحاكمة وسط هذا الغليان الشعبي وأمام مطالبه بحقوقه المشروعة وخصوصا في الديمقراطية والمشاركة في القرار، أم أن الوقت فات والعداء قد استحكم؟
أجبته أن المجال موجود لكن الوقت ضيق للغاية، والتأجيل والمماطلة لا يصب لصالحها وإن أول الآليات أن يغير أصحاب القرار في هذه الأسر الوجوه التي تتبوأ المواقع القيادية التي انتهت صلاحيتها، وهو أمر ليس بالمستحيل، إذ آن الأوان حقيقة أن تأتي دماء جديدة إلى كراسي الحكم مثل هذه الوجوه معروفة في دول المنطقة وأصابع الاتهام لا تتوقف من الإشارة تجاههم ولكنهم يواصلون سد آذانهم عما يقال عنهم وعن دورهم في التجاوزات المالية الخطيرة باستغلال مواقعهم كأصحاب قرار وفي كل بلد خليجي بعض مراكز القوى التي بلغت مستوى من التجذر والقوة أن صارت تتحدى كل القياديين الإصلاحيين فيها، ولو أسندت القيادات العليا للعناصر المتفاعلة مع شعوبها والمتعاطفة معهم لتمكنت من تعميق العلاقة بين الطرفين فعلى سبيل المثال في مملكتنا الحبيبة لنا أسوة حسنة في وزير العمل السابق وهو من كبار أفراد الأسرة الحاكمة يملك عقلية ناضجة وتاريخا ناصعا وقدرات فكرية وعلمية وقد دخل المختبر مرتين، أولاهما عندما تولى وزارة العدل وثانيتها عندما صار وزيرا للعمل، وعرفه الشعب البحريني نزيها، جادا، بعيدا عن الحس الطائفي والعنصري يبحث عن الجديد دائما لتطوير وزارته فهو بتلك الآليات كان يخدم الشعب من جهة ويخدم أسرته من جهة أخرى لأنه يقرب المسافة بين الطرفين ويرفع الغبار الذي ربما اعتلى وجوههم بسبب أخطاء آخرين من أصحاب القرار، والأسر الحاكمة في دول الخليج بها عناصر مماثلة للشيخ عيسى بن محمد وبإمكانهم أن يجعلوا من أمثاله هم أصحاب القرار في الجهاز التنفيذي وأنا واثق من أن مثل هذه الخطوة ستقرب هذه الأسر من شعوبها وتضع حدا للعلاقات المتوترة بين الطرفين ويرتاح دماغ حكام هذه الأسر وملوكها وأمرائها ويخسر كل المتجاوزين من غلاة المعارضة التي بدأت تبرز هنا وهناك أو تبعثر شعبيتهم على الأقل تلك الشعبية التي صارت تتنامى للأسف بسبب عناد وإصرار كبار أصحاب القرار في السير بهذه البلدان والشعوب بمنطق السيد والعبد وشيخ القبيلة وأفرادها وبآليات أوائل القرن الماضي
العدد 518 - الخميس 05 فبراير 2004م الموافق 13 ذي الحجة 1424هـ