العدد 518 - الخميس 05 فبراير 2004م الموافق 13 ذي الحجة 1424هـ

إيران وتوازنات الجمهورية الإسلامية

الخامنئي وحلحلة أزمة المترشحين

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

جاءت الأزمة الأخيرة بين مجلس صيانة الدستور (سلطة رقابية) ووزارة الداخلية (سلطة إجرائية) في رفض أهلية أكثر من 3600 شخص من المسجلين رسميا للترشيح للانتخابات التشريعية السابعة التي ستجرى في مارس/ آذار المقبل، ونداءات بعض الأطراف لمرشد الجمهورية الإسلامية الإمام الخامنئي للتدخل لحلحلة الأزمة ليؤكد من جديد نوعية الحقائق السياسية والدستورية التي يتفرد بها النظام الإسلامي، فهو إلى جانب اتساعه لأفهام الدين (المرنة) والسياســه (الممكنة) فهو متميز بشدة تعقيده وبتركيبته الجمهو/دينية التي هي أقرب ما تكون إلى عُسر مؤسسي وبتعدد لمراكز القوى، فبالإضافة إلى السلطات الثلاث يوجد هناك مركز المرشدية العليا ومجمع تشخيص مصلحة النظام الإسلامي ومجلس صيانة الدستور والمجلس الأعلى للأمن القومي، ولربما فعل خبراء الدستور والقانون الإيرانيون ذلك بعد الثورة رغبة منهم في مجانبة الاحتكار السياسي والتنفيذي الذي عاشوه ردحا من السنين منذ القاجاريين والبهلويين.

كان الإمام الخميني ومريدوه قد فهموا شيئا جوهريا في العمل السياسي وهو أنه من الصعب على رجل السياسة أن يقتاد من أيديولوجية واحدة خالصة لا تقبل شيئا من خارج ذوقها بل وتعتبره وزنا زائدا على جسمها، لذلك فإنهم وبُعيد انتصار الثورة الإسلامية في 11 فبراير/ شباط 1979 وعوا بأن إقامة إمارة دينية يحكمها أمير للمؤمنين أو دولة العدل الإلهي الذي يحكمها الفقيه بلا سلطات ثلاث هو ضرب من الجنون، لذلك فقد بادروا إلى تكييف أيديولوجي مع ما هو سائد من نظام دولي في فقه الدول الحديث مع المحافظة على قدسية جوهر الأفكار الدينية التي ناضلوا من أجلها والتي من أهمها مبدأ ولاية الفقيه الذي أسس لها سبط بن الجوزي وعمل بها الشيخ علي بن عبد العالي الكركي (940 هـ) والمحقق الأردبيلي (993 هـ) في أتون قيام الدولة الصفوية ثم نظر لها أكثر الشيخ أحمد النراقي (1248 هـ) من فقهاء القرن الثامن عشر وكلهم كانوا يجمعون على ضرورة استحصالها المقبولية والبيعة لكي تكتمل ويتحقق بذلك انبساط اليد للحاكم.

لقد أضاف الإمام الخميني لولاية الفقيه بعدا دراماتيكيا وحداثيا من خلال تطعيمها بالعنصر الجمهوري حيث باتت المؤسسات المتمخضة عنها تكتسي صفتها الشرعية والاعتبارية من خلال الانتخاب المباشر. وكان الإمام يعتقد بقوة أنه من خلال نظرية ولاية الفقيه يمكن العودة إلى علاقة الثابت بالمتغير أو الشريعة بالواقع وهي التي تحاكيها التحديات المعاصرة من مناح مختلفة، تبعا لنفوذ الإطار العلمي الغربي مرة أو ارتباطا بمحاولات التجديد والتحديث التي تتطلع إليها إنتلجنسيا العالم الإسلامي مرة أخرى، وعليه يمسي دور المرشد الأعلى محوريا، في عقلنة التجاذبات الحادة التي تفرزها نزعات الجمود أو التجديد، التأصيل والتحديث، ذلك أن الحراك الاجتماعي والمعرفي الذي يمكن أن تحياه البشرية لا يمكن اختزاله في مغامرة فكرية خالصة، أو صراع سياسي مباشر لأنها حال تاريخية متعددة الأبعاد، تغدو مصلحة الأمة أحد أهم أبعادها وأكثرها حضورا، من هنا تتبين ضرورة الانشداد والركون إلى موقع الولاية بوصفه الوازن لتقاطب المفاهيم والمصالح.

وفي سبيل إيجاد مسببات الحصول على المرشد الصالح فقد دأب الإمام الخميني في بحوثه الولائية على التأكيد أن شرطي العلم والعدالة يجب أن يتوافرا في الولي الفقيه، لكي يحيلا كفاية الولي إلى كفاية ذاتية والضوابط إلى ضوابط داخلية بالإضافة إلى مراقبة الجهة القضائية وأهل الحل والعقد لإدارته وتصريفه للأمور، بدلا من التعويل على كفايات وضوابط خارجية صرفة، وإذ إن تنفيذ الأحكام الإلهية والعدل يتماثلان ويندرجان في دائرة واحدة، فإن ذلك يعني أن تنفيذ الأحكام الإلهية وخدمة الناس (كما هو مذكور في كتاب الحكومة الإسلامية) يشكلان قاعدة ممارسة السلطة في فكـر الإمام الخميني، وهذا هو أحد المرتكزات التي يتأسس عليها تجديده السياسي الديني، إذ إن إعلاء قيمة خدمة الناس ووضعها إلى جانب تنفيذ الأحكام يشكل الإجابة الخمينية على إحدى الإشكالات المطروحة دائما في علم السياسة وعلم الاجتماع، وهو ما أوجد مبدأ فلسفيا مؤصلا متماه مع قيم المجتمع وتستمد منه السلطة مبررات تأسيسها واستمراريتها.

وفي عملية استقراء عمودية للحال المشروعية للأنظمة السياسية السائدة في العالم وخصوصا تلك الأنظمة التي رشحت بعد الثورة البيضاء في انجلترا في القرن السادس عشر والثورة الفرنسية العتيدة في القرن الثامن عشر وكذلك فترة صوغ الدستور الأميركي بعد الحرب الأهلية في القارة الشمالية الجديدة نلحظ أنها تلتقي حول ركيزتين أساسيتين في مشروع الدولة السياسي:

(1) الجهة المركزية والنهائية في سلسلة مشروعية حيثيات النظام السياسي التي يمكن التحاكم إليها في حال الصدام التنفيذي أو القضائي أو التشريعي.

(2) الخطوط الحمراء لأصل النظام السياسي التي بها حياته ومماته (الحرية الليبرالية في الغرب مثالا) وعليه لا يمكن وبأي حال من الأحوال القفز عليها أو تجاهلها أو التآمر عليها.

وتأسيسا على ذلك فقد استطاعت الجمهورية الإسلامية أن توجد ما يمكن أن يسمى بالمرجعية السياسية العليا التي يمكن اللجوء إليها كصمام أمان في حال الاختناق الدستوري بين السلطات حالها حال باقي الدول وهي موقع الولي الفقيه بالمصطلح الفقهي أو مرشدية الثورة (أو الجمهورية) الإسلامية الذي هو بحسب المادة 110 من الدستور الإيراني موقع محوري في النظام السياسي لطالما كان مفتاحا لحلحلة الكثير من القضايا التي لم يوجد لدينا حلول إدارية أو قضائية أو تشريعية فيها.

خصوصا إذا استحضرنا فكرة أن الولي الفقيه وبحسب الفقه السياسي غير مقيدة بالأخذ بالأحكام الأولية والثانوية، بل له حكم ولائي مستقل، في عرض الأحكام الأولية والثانوية ناشئ من الخلط بين الأحكام التشريعية والإجرائية، كما أن الفقه السياسي لا يقول بأن الحاكم ليس له حكم ولائي بل هو ثابت له، ولكنه ليس في عرضهما بل في طولهما، فمثلا أن الأحكام الأولية كوجوب الصلاة والزكاة والجهاد، والثانوية كنفي الضرر والحرج ولزوم حفظ النظام، أحكام كلية إلهية، وقوانين عامة شرعية، وأما الحكم الولائي حكم جزئي من ناحية الحاكم، يحصل من تطبيق القوانين الكلية الإلهية على مصاديقها الجزئية، مثلا: الفقيه الذي يحكم بأن التدخين بالتنباك في هذا اليوم بمنزلة الحرب ضد الإمام المهدي (وهي فتوى السيد محمد حسن الشيرازي الكبير في القرن الثامن عشر) ينظر إلى حكم كلي، وهو أن كل شيء يكون سببا في إضعاف المسلمين، وكسر شوكتهم، فهو بمنزلة المحاربة له واستعمال التنباك في ظروف خاصة كان بنظر الفقيه الجامع لشرائط الحكم وبحسب رأيه الصائب مصداقا لذلك، فيحكم بهذا الحكم الولائي باتا، وإذا ارتفعت العلّة الموجبة له يحكم بجوازه لتبدل موضوعه.

كما أنه وفي موطن آخر يجب أن نشير إلى أن فقهاء المسلمين بشتى مشاربهم المذهبية قد اتفقوا على أن نظام الحكم في الإسلام يقوم على أربعة أركان:

1- الحاكمية لله.

2- للسيادة للشرع.

3- المراقبة للأمة.

4- طاعة الحاكم ما دام في طاعة الله.

وعندما نريد إجراء مقاربة بين ما هو سائد من أنظمة دولية حديثة في الغرب وما بها من صلاحيات تنفيذية وتشريعية للمرجعية العليا للدولة بغرض مأسسة العمل التنفيذي والتشريعي وبين المرشد في الجمهورية الإسلامية نلحظ ما يأتي:

إن النظام السياسي البرلماني الذي ساد منذ القرن السادس عشر بشأن ثنائية الجهاز التنفيذي بين رئيس الدولة والوزارة خضع للمسألة العرفية بشكل مفرط، إذ إن رئيس الدولة الذي يشار إليه بأنه يسود ولا يحكم باعتباره لا يمارس الوظيفة التنفيذية قد احتفظ لنفسه حق تعيين الوزارة وعزلها وحق حل المجلس النيابي المنتخب وأخرى متعلقة بعمل السلطتين التنفيذية والتشريعية في مسائل الوحدة والتضامن والتجانس والانسجام ومظاهر الرقابة المتبادلة من حق السؤال والاستجواب وحق إجراء التحقيق.

كما أن الصلاحيات التي أعطيت للنظام الرئاسي قد لا تكون بغربة عن الصلاحيات التي أعطيت للمرشدية في إيران طبقا للمادة 110 من الدستور فالمرجعية الرئاسية العليا في الأنظمة الغربية المتمثلة في الرئيس هي التي تضع السياسات العامة للدولة وتشرف على تنفيذها وتنظم وتراقب أعمال الإدارات العامة وتتولى القيادة العليا للجيش وتباشر السياسة الخارجية من دون أن تكون لوزراء الدولة استقلالية في مواجهتها بل هي التي تعينهم وتعزلهم ويخضعون لها خضوعا تاما ويستمدون سلطاتهم واختصاصاتهم منها وتكون مسئوليتهم عند تنفيذهم للسياسة العامة أمامها وحدها، كما أن النظام الرئاسي في حيثية التوازن والرقابة أعطى رئيس الجمهورية حق الاعتراض على القوانين التي يشرعها البرلمان وهو ما يسمى بحق الاعتراض التوقيفي المؤقت.

وفي الولايات المتحدة الأميركية فإن طابع الرئاسة قد اتسم بالتباين إلى حد ما مع ما هو سائد في أوروبا، فالرئيس الأميركي من حقه عزل كبار قضاة المحكمة العليا، وهو قائد أعلى للجيش سواء في زمن السلم أو الحرب وبهذه الصفة يستطيع إدخال القوات المسلحة في عمليات حربية من دون أن يسبقها إعلان حرب رسمي من قبل الكونغرس وهو الأمر ذاته الذي فعله الرئيس روزفلت في الحرب العالمية الثانية وترومان في حرب الكوريتين وجونسون في فيتنام.

بالإضافة إلى كل ذلك يتمتع الرئيس بصلاحيات واسعة جدا تخوّله مصادرة الأشخاص والأموال بحجة الدفاع الوطني، وهو مارأيناه جليا بعد حوادث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول، كما أنه يستطيع أيضا عقد اتفاقات دولية من دون الرجوع إلى مجلس الشيوخ وذلك بصيغة اتفاق تنفيذي Executive Agreement.

وفي مجال القضاء أقرّ الدستور الأميركي أن للرئيس حق إصدار العفو العام عن الجرائم وله حق إلغاء العقوبة الجنائية أو خفضها أو وقف تنفيذها، كما يملك حق العفو الشامل بأن يرفع عن الفعل وصف الجريمة لمن شملهم الإعفاء وهو تخويل نادر جدا في الأنظمة الغربية.

وفي المجال التقنيني خول الرئيس حق التدخل في النشاط التشريعي للكونغرس من ناحيتين:

1- حقه في أن يقدم توصيات تشريعية من خلال إخطاره للكونغرس بحال الاتحاد العام من وقت إلى آخر.

2- حق الرئيس في استخدام الاعتراض التوقيفي على القوانين التي يقرها الكونغرس.

أخيرا، يمكن الوقوف على دور المرشد ومن خلال تجارب سابقة طرأت على المشهد السياسي الإيراني، فهو يلعب دورا مهما في النظام السياسي، ومفتاحا سحريا لفرملة ما قد يؤدي إلى تأزيم الموقف أو تعقيده، فتدخله لحسم مسألة الاغتيالات التي طالت ستة من المثقفين الليبراليين العام 1998، ثم طلبه من السلطة القضائية مراجعة وتخفيف حكم الإعدام بحق هاشم آغاجري، وتدخله في حسم قانون المطبوعات المعدل، والآن طلبه من مجلس صيانة الدستور مراجعة الملفات المرفوضة، كلها أمور يمكن قراءتها لتوصيف واقع مهم لمحورية تلك المرجعية السياسية الإيرانية، على رغم أنني على يقين بأن نظرية الحكم الفقهية المعمول بها في الجمهورية الإسلامية تتمتع بالمرونة إلى أقصى حد بغية المواءمة المستمرة مع المستجدات والحوادث الطارئة، وهو ما قد يلمسه كل متتبع للشأن الإيراني عن قرب

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 518 - الخميس 05 فبراير 2004م الموافق 13 ذي الحجة 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً