العدد 518 - الخميس 05 فبراير 2004م الموافق 13 ذي الحجة 1424هـ

المعتزلة... وما بعدها

فرق المعتزلة

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

نهايات المعتزلة غير معلومة كذلك بداياتها. ولكن يمكن الاتفاق على ان فترة ازدهار فرقها بدأت في نهايات الدولة الاموية وتراجعت في بدايات الدولة البويهية. وبين التأسيس المرجح في العام 107 هجرية (725م) وبداية النهايات في العام 321 هجرية (933م) نجحت هذه الحركة في استغلال سلسلة تحولات سياسية للانتقال من موقع المعارضة إلى الفريق المهيمن على السلطة. فهي استغلت فترة الانتقال من المرحلة الاموية إلى العباسية فشهدت الاتصالات الأولى بينها وبين الدولة في عهد هارون الرشيد. واستغلت فترة الحرب الأهلية بين الأمين والمأمون وما فجرته من تعارضات اقوامية وسياسية (فرس وعرب) لتستولي على الحكم بالاتفاق مع المأمون حين استوى على دار الخلافة. ولكنها استقوت بالسلطة لتتقوى السلطة بها في فترات لاحقة امتدت إلى عصر المتوكل. وبعد المتوكل أخرجت من الدولة واستمرت تنازع ايديولوجيا حتى انقلاب الامام الاشعري على الجبائي (الاب) ثم انقلاب دولة الخلافة وتحولها إلى هيئة يدير شئونها الوزراء ثم الأسر وتحديدا بني بويه.

هذا التاريخ السياسي تزامن مع تحولات ايديولوجية - فلسفية. فالمعتزلة بدأت بعد ان نجح الخليفة الاموي عمر بن عبدالعزيز في جمع احاديث الرسول (ص) وكذلك بعد ان اخذت المذاهب الاسلامية الخمسة الكبرى بالتبلور على يد الائمة الكبار. ولكن المعتزلة فشلت في التحول إلى مذهب فقهي نظرا لتبعثر منظوماتها الفكرية وعدم اتفاق شيوخها على قراءة موحدة وفشل فرقها في التفاهم على نظام مشترك لما يسمى فقه المعاملات. فالانظمة الفكرية التي اعتمدها شيوخ المعتزلة مالت إلى التنظير الايديولوجي وابتعدت كثيرا عن الفكر العملي الذي يستخدم النظرية العامة للتعاطي مع حاجات الناس والوقائع المتغيرة أو ما يسميه الفقهاء بالمصالح المرسلة.

وغياب فقه المصلحة عن وعي شيوخ المعتزلة وفرقها المتنوعة والمتنافرة اسهم في تشتيت قدرتها على التعاطي مع الضرورات اليومية لعامة الناس وفق نسق متكامل في مدلولاته ومعاملاته المختلفة.

وفي كل الاحوال أسهمت عوامل كثيرة في تفكيك وحدة المعتزلة وبعثرتها. فالفكرة في اساسها لم تكن واضحة، فهي انطلقت من اقوال بسيطة ثم تطورت مع الايام إلى مدرسة عقائدية مركبة من مجموعة فروع لا اصل لها سوى الاتفاق على إثارة الكلام الذي يقول الكثير وينتهي إلى قول القليل.

الى ضعف منظومة الفكرة لعبت السياسة دورها في كسر وحدة المصالح والاراء. فالصعود الذي عرفته الحركة من مدرسة فكرية تخالف المألوف إلى قوة سياسية حاكمة تؤثر إلى حد كبير في توجه السلطة ودورها في ضبط التوازن اخل بالكثير من صدقية فرق المعتزلة واسهم في تسريع انهيارها لاحقا.

المعتزلة تحولت في لحظة زمنية إلى ما يشبه الحزب السياسي وبدأت تمارس نفوذها من موقع الدولة كقوة ايديولوجية مهيمنة تضطهد كل ما يخالف رأيها في مسائل عقائدية حساسة ألبّت في النهاية الشارع المتدين وجيّشت القوى المتضررة منها للتكاتف والتوحد ضد نشاطها العقائدي الذي اتخذ من افكار بعض اساتذتها وشيوخها قواعد انطلاق لفرض نوع من «المذهب» المركزي على مختلف التيارات والاتجاهات والاجتهادات.

هذا التشدد الايديولوجي، وخصوصا في مسألة خلق القرآن وامتحان العلماء والائمة والقضاة امام الخليفة وفي دار الخلافة، اضعف المعتزلة وانزل من مكانة الدولة، إذ للمرة الأولى في التاريخ الإسلامي تتبنى السلطة «وجهة نظر» يمنع مخالفتها أو معارضتها في الشارع. فالمعتزلة فعلا هم أول حزب ايديولوجي يحكم الدولة الإسلامية في معنى فرض التوجه الرسمي (البرنامج السياسي) على مختلف الكتل والمدارس الإسلامية. فالدولة الإسلامية قبل تلك الفترة لم تعرف سياسة عقائدية احادية الجانب على رغم أنها شهدت مختلف الوان الصراعات السياسية على أسس عصبية أو اجتهادات عامة لا تمس جوهر العقيدة أو التوازن الاجتماعي أو موقع الدولة كوسيط بين الاجتهادات.

مع المعتزلة تحولت الدولة إلى تبني مذهب سياسي هو اقرب إلى العقلية الحزبية (الايديولوجية) المركزية التي شهدنا في تاريخنا المعاصر حالات مشابهة لها.

لاشك في أن انقلاب المتوكل السياسي على المعتزلة كان بداية نهايتها كقوة مهيمنة على الدولة إلا أن فرقها استمرت تنشط ايديولوجيا في مختلف المدن والساحات من دون غطاء رسمي يحميها أو تتسلح به لقمع الخصوم.

بعد المتوكل جاءت التحولات الاجتماعية التي عرفتها الدولة العباسية وبروز خلفاء اقوياء نجحوا في إعادة ترسيخ هيبة الدولة ودورها الأمر الذي أسهم في إشاعة مناخات من الحرية فظهرت في إطارها حركة تنويرية إسلامية شكلت مظلة شعبية لمختلف القوى والتكتلات والاجتهادات.

عودة الروح إلى الدولة ونمو وعي مضاد وظهور بوادر نهضة إسلامية (عقائدية) اضعف من هيبة المعتزلة وزعزع هيمنتها الايديولوجية نظرا لقيام بعض الفقهاء والعلماء بالتصدي لكل تلك الافكار والرد عليها وتفنيد منظوماتها الفلسفية.

إلا أن العامل الاساسي الذي عزل المعتزلة وابعدها عن مسرح التاريخ هو قيام حركات وانتفاضات مسلحة وعفوية وفوضوية فاقت في سلبياتها الاضرار التي خلفتها فرق المعتزلة في فترة سيطرتها على الدولة العباسية. فالمعتزلة لم تكن قوة سياسية في الشارع بقدر ما كانت «وجهات نظر» متضاربة ارادت من خلالها تكوين مدرسة ايديولوجية تمارس نفوذها على المجتمع من خلال هيمنتها على الدولة. فالمعتزلة لم تكن ضد الدولة بقدر ما كانت ضد المجتمع. فهي لم تخالف السلطة وانما استغلتها في لحظة زمنية كانت فيها الدولة بحاجة أيضا إلى قوة عقائدية تتسلح بها لمحاربة المخالفين من الائمة والعلماء والفقهاء.

بدأت عزلة المعتزلة حين انقضّت على الدولة حركات انقسامية في المركز والأطراف وأخذت بتأسيس دويلات ومواقع قوى اضعفت الخلافة وهددت هويتها الدينية. ففي هذه الفضاءات بدأت نهايات المعتزلة إذ تراجع الكلام لمصلحة السياسة ونهضت قوى فكرية بديلة جددت ادوات المواجهة الكلامية (الايديولوجية) في وقت استمرت المعتزلة تكرر خطابها السابق وتعيد انتاج مقولاتها من دون انتباه للتحولات التي طرأت على الخلافة في تركيبتها الداخلية والضغوط التي واجهتها في معاركها الخارجية وعلى ضفاف حدودها من المشرق إلى المغرب وصولا إلى الجزيرة العربية.

لم تستطع المعتزلة تجاوز نفسها وفشلت في إعادة تكييف خطابها مع تحولات الزمن والواقع. فالزمن لا ينتظر وكذلك حين يتغير الواقع لا بد من إعادة قراءة جديدة له. وهذا لم تفعله فرق المعتزلة الأمر الذي اعطى شرعية للهجوم عليها وخصوصا من تلامذتها فتمردوا على شيوخها وانقلبوا عليهم وأسسوا لمناهج جديدة كان لها دورها في تثوير الفكر الإسلامي وإعادة انتاج مدارس كلامية - إسلامية نجحت في تحصين العقيدة والدفاع عن الهوية الإسلامية.

عموما يمكن القول ان نهاية المعتزلة كانت متدرجة وتاريخية. فهي لم تظهر دفعة واحدة ولم تضمحل في لحظة واحدة. فنهاية المعتزلة كانت اشبه بالنهايات غير السعيدة فهي فشلت في السياسة وفشلت في الفكر. فأفكارها كانت مجرد تنويعات كلامية خلطت بين الفطرة والفلسفة وعجزت عن تشكيل مذهب. فهي مجرد مدرسة كلامية أقل من مذهب وأقل من منهج فلسفي ومجرد تيارات منقسمة ومبعثرة فشلت في نهاية المطاف في التوفيق بين الحكمة وظاهر الشرع.

... والفشل في المعنى التاريخي يعني السقوط ومن ثم الغياب التدريجي عن مسرح الصراع في الدائرة الإسلامية. وهذا ما حصل للمعتزلة. فهي حين عجزت عن تجاوز زمان تأسيسها تجاوزها الزمن في لحظات تاريخية مفارقة شهدت تجدد الصراع بين الفلاسفة والعلماء وتجدد ظهور تيارات لفلاسفة الفقه في معارك كلامية أخرى مع تيارات لفقهاء الفلسفة.

في هذا الوقت كانت المعتزلة انتهت من فترة نهاياتها... بينما استمرت كتابات واجتهادات «فلاسفة الفقه» ثابتة ومزدهرة إلى عصرنا.

انتهى البحث

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 518 - الخميس 05 فبراير 2004م الموافق 13 ذي الحجة 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً