تخطئ الصحف حينما تصنف الصحافي على أنه موظف وتتعامل معه على هذا الأساس وهو خطأ كبير لأنها بذلك تحرم المجتمع من رقابة شعبية حقيقية باعتبار أن هذا يضعف السلطة الرقابية للصحافة، ما دفع بعض الصحافيين إلى المطالبة بتشكيل نقابة مهنية تضمن لهم عدم المساس بالثوابت والأسس المهنية الصحافية وتعرفهم تعريفا دقيقا وتحفظ حقوقهم وتدافع عنها... إن مسألة إيجاد نقابات مهنية بات مطلبا ملحا يجب أن يتحرك الصحافيون نحو تنفيذه وخصوصا أن الأرضية أصبحت الآن مهيأة ويمكن لتحقيق ذلك الاستفادة من تجارب دول العالم كأوروبا التي وصلت منذ زمن بعيد إلى مرحلة راقية في تعريف من هم الصحافيون، فأوروربا الغربية تحديدا فيها نقابات صحافية متعددة بتعدد الأحزاب وفرنسا مثلا فيها خمس نقابات وفيها اتحاد لمهن النقابات، كما أنشئت فيها جمعية للمحررين، واتحاد لأصحاب الصحف وكذلك بلجيكا وفنلندا والسويد.
كل هذا الوعي النقابي بالحركة النقابية الصحافية لها مكاسب قانونية واقتصادية أدركتها أوروبا وبريطانيا وأميركا، هناك مناقشات مفيدة عن تعريف الصحافي وكيف يمكن تعريفه، وهل هو عامل ينطبق عليه قانون العمل، أم موظف ينطبق عليه قانون الموظفين، أم ليس بالعامل تماما وليس بالموظف بتاتا، وإنه «شيء ثالث».
وخطورة هذا البحث القانوني أننا لو اعترفنا بأن الصحافي عامل فإننا نفترض تبعا أنه يخضع لرب العمل، وأن علاقة «التبعية» تقوم بينه وبين الصحيفة، وهو شيء لا يدور في خلد المشرع، ولو افترضنا أيضا أنه موظف لقلنا بالتالي انه يخضع للسلم الإداري وهو ما يتناقض مع حرية الرأي والتعبير، ومن هنا ظهرت هذه النظرية المهمة من أن الصحافي حين يعمل في صحيفة إنما هو في الأصل صاحب رأي وضمير، وأن التعاقد معه يتم على هذه الصفة، و تأخذ جميع النقابات الأوروبية مفاوضاتها وعقودها الجماعية بالاخذ بما يسمى «شرط الضمير»، ومعنى ذلك الشرط أنه يحق للصحافي أن يطالب بإعلامه بأية تغييرات في ملكية الصحيفة التي يعمل بها، وبأية تغييرات مهمة في التعيينات التي تحدث في الصحيفة، وتلتزم إدارة الصحيفة بهذا الأخطار حتى لا تفاجىء الصحافي - وقد تعاقد معها على أساس إدارة معينة وسياسة محددة - بأن الإدارة قد تغيرت وبدأت سياسة جديدة مغايرة تماما.
وفائدة «شرط الضمير» أن الصحافي لا يعتبر عاملا يدويا عليه أن يقدم جهدا عضليا مقابل أجر، وأنه لا يعتبر موظفا يخضع للسلم الإداري، والتبعية الإدارية، بل يعتبر أيضا صاحب ضمير، يلتزم صاحب العمل والإدارة باحترامه، وفائدة «شرط الضمير» تظهر أيضا من الناحية العملية، لأن ملكية الصحيفة إذا انتقلت من مالك إلى آخر، وانتوى المالك الجديد أن يغير من سياسة الصحيفة بطريقة يعتقد الصحافي أنها تقيد من حريته، أو تغير «الظروف» التي تعاقد في ظلها مع المالك القديم فإنه يطلب بتطبيق «شرط الضمير» الذي يبرر له فسخ العقد والحصول على تعويض.
والقانون الفرنسي - مثلا - لا يستطيع الوقوف ضد ملكية صحيفة، كما لا يستطيع أن يقيد المالك الجديد في أن يضع سياسة جديدة لصحيفته، وحدث ذلك حينما انتقلت ملكية صحيفة «الفيجارو» أو عند إدارة صحيفة «الموند»، وحينما تغيرت ملكية صحيفة «فرانس سوار»، ولكن القانون أعطى للصحافي حق الاعتراض على سياسة الصحيفة الجديدة - إن كان له اعتراض - وأعطاه حق تطبيق «شرط الضمير» تأسيسا على أن الصحافي وعقد العمل الصحافي له طبيعة خاصة تميزه عن بقية العقود.
ولو أجرينا استعراضا سريعا لقانون المطبوعات البحريني المعترض عليه لوجدنا أنه فشل في تعريف الصحافي تعريفا دقيقا واكتفى بوصفه على أنه «من يمارس مهنة الصحافة بصفة منتظمة في صحيفة يومية أو دورية أو وكالة صحفية...»، وكذلك أخفق القانون الذي قدمه الصحافي بشمي في تعريف الصحافي وجاء التعريف نسخة طبق الأصل تقريبا من قانون المطبوعات فهو «من باشر بصفة أساسية ومنتظمة مهنة الصحافة في صحيفة يومية أو دورية...»، كل القانونيين شبهوا الصحافي في تعريفهم له بالموظف وليس على أساس الاحتراف وأن يكون غالبية دخل الصحافي من العمل الصحافي وهو ما عجز عنه المشرع إذ لا يتوافر شرط الاحتراف ولا فقدان العمل الصحافي لذلك يقل عدد الصحافيين حتى مع تطور الطباعة والإمكانات المادية الهائلة خلال السنوات الماضية.
نقول ان المشرع البحريني يأخذ بتعريف الصحافي تعريفا «من الخارج» كقولة انه هو الكاتب والمحرر... ولعلنا لا نتجاوز الطموح المشروع حين نقول ان الوقت آن لأن يعرف الصحافي تعريفا أكثر حدة وأكثر عمقا، ليؤكد أن الصحافة هي مهنة الضمير، وتأكيد «شرط الضمير» هو ارتقاء بالتشريع الصحافي، وتأكيد أيضا لمعنى الحرية العميق.
وقد يقول قائل، وهل تصفية القوانين من الشوائب يكفي لتأكيد سلطة الصحافة؟
لا نستطيع أن نزعم بأن القوانين وحدها تكفي، لكن البحرين توافر لها تاريخ طويل وتقاليد قديمة وتجارب عميقة ولعل كثرة القوانين التي صدرت في فترة بعيدة عن الديمقراطية تبرر لنا اليوم أن نراجع غالبيتها وخصوصا وقانون المطبوعات الذي قارب زواله من وقانون العقوبات حامل روح أمن الدولة، وكل القوانين التي أصبحت بالية وأهمية مراجعة هذه القوانين تعود إلى أخطرها - التي وضعت في ظروف استثنائية لقمع الرأي وحرية التعبير - في الوقت الذي نبني فية بناء ديمقراطيا من المفترض أن يقوم على تعدد الأحزاب واحترام الرأي والرأي الآخر والتمسك بفضيلة الحوار، واحترام الغالبية لحرية الأقلية، واحترام الأقلية لحق الغالبية.
ومثل هذا البناء يقتضي إعادة النظر في تلك التشريعات جميعا ولست أريد أن أزج بالقارىء إلى تفاصيل المسائل الواقعية للصحافة في البحرين لكنني أشير إلى ظاهرة تكدس الصحافيين في عدد من المؤسسات يزداد تركيزا ويقل عددا على توالي السنين، ولابد من الإشارة إلى ظاهرة خطيرة هي النمو الطباعي والتجاري على حساب النمو الصحافي والثقافي وهي مشكلات بالغة الأهمية لا تكفي فيها إشارة فضلا عن ظاهرة عقد «الصمت» الصحافي أي إسدال الستار على كاتب أو صحافي لسبب من الأسباب، قد يكون معروفا أو غير معروف للقراء، والظن عندي أن الكاتب حين يتعاقد مع صحيفته إنما يتعاقد على أساس ضرورة الاتصال بجمهوره، ومن هنا فإن التجربة الواقعية لمشكلات الصحافة تقتضي الدراسة العلمية والموضوعية من دون تحيز أو تحامل، بروح وطنية بناءة، كي تصل الصحافة البحرينية إلى آمالها، وليس ببعيد لأن الآمال الكبيرة تتطلب أعمالا لا أقوالا، وشحذا للهمم وروحا جديدة، فالصحافة خدمة للقراء، وهم أصحاب المصلحة الحقيقية في أن تصبح صحافتهم حرة وأن تكون حريتهم كاملة في النظرية والتطبيق
العدد 517 - الأربعاء 04 فبراير 2004م الموافق 12 ذي الحجة 1424هـ