يُخطئ بعض السياسيّين وخصوصا اللبنانيّين، في التنظير بشأن موضوع ومفهوم الردع وما شابه. فيقولون مثلا ان ردّ حزب الله حديثا على دخول جرّافة إسرائيليّة إلى داخل الاراضي اللبنانيّة، هو عمل يدخل ضمن مبدأ الردع، وهذا خطأ طبعا. لكن لماذا؟
كل شيء في السياسة يدخل تحت عباءة مفهوم الإكراه Coercion. وينقسم مفهوم الإكراه بدوره إلى مفهومين فرعيّين هما: الاول، مفهوم الإجبار Compel، أي عندما نجبر الآخر، أو العدو على القيام بما نريده أن يفعل. أما المفهوم الثاني، فهو مفهوم الردع Deterrence، وهو عندما نردع، أو نمنع العدو عن القيام بعمل ما، وذلك لأن كلفة سلوكه في حال لم يرتدع، ستكون باهظة، وستتجاوز الارباح الممكن له تحقيقها.
في حال تدمير الجرّافة، يكون حزب الله في حال المدافع الشرعي عن الارض، وخصوصا ان الجرافة كانت تجاوزت الخط الازرق. لكن الذي منع شارون من الردّ يندرج تحت عباءة مفهوم الردع. وذلك لان حزب الله كان قد اعدّ منظومة ردعيّة معقّدة في جنوب لبنان، سيستعملها عند الحاجة، وهي مكلفة لشارون حاليا في حال قرّر الاعتداء.
ماذا عن مفهوم الإجبار؟
تندرج صفقة تبادل الاسرى بين حزب الله و«إسرائيل» في خانة الاجبار. فهي اجبرت «إسرائيل» على التنفيذ، وعلى التعامل مع ألدّ اعدائها، وذلك فقط لان حزب الله كان قد اعدّ ورسم الوضع بشكل يجبر شارون على التعاون من دون أي خيار آخر، فماذا عن هذه العمليّة؟
قد تعكس صفقة تبادل الاسرى بين حزب الله و«إسرائيل» نقطة الضعف الكبرى لدى «إسرائيل»، ألا وهي العنصر البشري. وإلا فما معنى ان تسلّم «إسرائيل» نحو 436 اسيرا ما بين لبناني وعربي، مقابل اربعة اشخاص فقط؟ هل يمكن لنا ان نرصد هنا الهاجس الديموغرافي لدى الكيان الصهيوني؟ أم ان العلاقة بين الدولة الاسرائيلية ومواطنيها، هي كالعلاقة بين الاب والعائلة؟ وإلا فما معنى هذا الاصرار الاسرائيلي لمعرفة مصير الطيّار رون آراد، والذي أسقطت طائرته فوق لبنان العام 1986؟ وما معنى ان ترتقي قضيّة طيّار معتد، غاز على لبنان، إلى قضيّة قوميّة إسرائيليّة، قد تؤدّي إلى الإطاحة بالحكومة، أيّة حكومة؟
هل أن هذا الاهتمام الاسرائيلي الزائد بالاسرى، قد يعني أن العرب لا يهتمّون من جهّة أخرى بأسراهم؟ وهل لهذا الامر علاقة مباشرة بالخلل الديموغرافي بين العرب و«إسرائيل»، ولصالح العرب بالتاكيد؟ لكن الاكيد أن الاسرى والقتلى العرب، وإذا ما كانوا منسيّين من قبل الانظمة الرسميّة، فإنهم حتما لا يزالون أحياء في قلوب امهاتهم واهلهم. لكن الامر يبقى في كيفيّة إستردادهم، أحياء كانوا أم ترابا، وخصوصا ان الواقع العربي عاجز حاليا.
في هذا الاطار والواقع، تأتي صفقة حزب الله لتحتلّ مركز الصدارة في فرادتها المتقدّمة على كل الانظمة العربية، بغض النظر إذا ما كانت هذه الانظمة صديقة لـ «إسرائيل» أو عدوّة لها. لكن كيف ولماذا؟
في الاتفاق:
«ماذا يعني أن يعقد الصفقة حزب لبناني مقاوم مع دولة عدوّة لكل العرب، عفوا لبعضهم، وهي الدولة التي اعتبرها العرب الخطر الاكبر على أمنهم القومي، وحاربوها لاكثر من نصف قرن؟
«ماذا يعني ان تدخل دولة بحجم ألمانيا للتوسّط بين حزب لبناني مصنّف إرهابي، وبين دولة معترف بها من قبل المجتمع الدولي؟
«ماذا يعني ان تتفاوض «إسرائيل» الدولة النوويّة، والتي تملك اكثر من 200 رأس نووي، وقادرة على إطلاقها في الابعاد الثلاثة، البحر، الجو والارض، مع حزب لبناني محلّي، متهم بأنه يدافع عن أرضه بطريقة شرعيّة، ولديه فقط بعضا من الصورايخ والتي يبلغ مداها نحو الـ 60 كلم؟
«ماذا يعني ان تتفاوض «إسرائيل» مع حزب متهم بالارهاب، ومُصنّف من قبل الولايات المتحدة كفريق «B», A-TEAM؟.
هل التفاوض مع حزب الله وتصدّره المركز المتقدّم في الصراع والحلّ مع «إسرائيل»، قد يعني ان الانظمة العربيّة أصبحت عاجزة، او غير قادرة على السير في هذا المسار؟ وهل الدول العربية اوكلت إلى حزب الله بطريقة مستورة مهمّة الصراع، بعد ان كانت في وقت سابق قد اوكلت المهمّة نفسها لمنظمة التحرير الفلسطينيّة، بعد ان سقطت، أي الدول العربية في كل الامتحانات المتعلّقة بالصراع؟
المتناقضون العرب
لماذا ينتقد الكثير من العرب واللبنانيين حزب الله عندما يقوم بعمليات مقاومة في مزارع شبعا. ويعمدون الآن إلى تبني الانجازات، وإطلاق المدائح والتبجيل، وتهنئة الحزب؟ وهل يمكن لأي مُنتقد أن يفصل ما بين السياسة، وبُعد القوّة في الصراعات، كأن يقبلون الممارسة السياسية في عملية تبادل الاسرى، ويرفضون استعمال القوة في وقت آخر؟ فهل تتحقّق الاهداف فقط بالكلام السياسي الفارغ من أي ردع عسكري؟ بحسب ما علمنا التاريخ، تستلزم السياسة، دعما من القوة العسكريّة. أليست الحرب هي السياسة بوسائل أخرى، كما قال عنها المنظّر البروسي كارل فون كلوزفيتز؟
هل أصبح نموذج حزب الله هو البديل للصراع مع «إسرائيل»؟ وهل يمكن تعميم هذا النموذج على من اراد المقاومة؟ بالطبع كلا، فنموذج حزب الله هو فريد في نوعه، وذلك لان ظروفه مختلفة عن ظروف كل المقاومات، لكن كيف؟
هل يمكن تصوّر دولة عربية مثل لبنان محاذية لـ «إسرائيل»، تتبنى مقاومة مدعومة من الجيش الرسمي، تساندها دول اقليمية، وقادرة على اتمام إنجاز مواز لإنجاز التحرير اللبناني؟ بالطبع كلا.
- بعد عمليّة التحرير للجنوب (تبقى مزارع شبعا)، لم تعمد هذه المقاومة كما فعلت باقي المقاومات، إلى اعتماد مبدأ تصفية الحسابات، كأن تنتقم من المتعاملين مع العدو. لا بل راحت تحاول المحافظة على الاهالي الذين كانوا تحت الاحتلال.
لم ترتدّ هذه المقاومة إلى الداخل اللبناني، لتترجم انتصارها العسكري سياسيّا، عبر الهيمنة على الافرقاء الباقين. لا بل عمدت إلى ما يأتي:
- الاستمرار في المقاومة حتى تحرير ما تبقى من الاراضي المحتلّة، والاستمرار بالقيام بالعمليات العسكرية كلما سمحت لها الظروف العملانيّة والاسترايجيّة بذلك. ومن خلال هذا، ارادت المقاومة إبقاء باب الصراع مفتوحا، كي لا يرتاح العدو. وعمدت لذلك إلى بناء منظومة ردعيّة، يتكلّم عنها العدو دائما، ومن دون إزعاج المحيط السكاني الصديق حيث وجدت. المهم، هو في إبقاء العدو قلقا بصورة مستمرّة.
نموذج المقاومة المتسامي
استمرّت هذه المقاومة في عملها السياسي على صعيد التمثيل البرلماني من خلال كتلتها. لكنها لم تتورّط في الخلافات السخيفة، لا بل تسامت هذه المقاومة ووسّعت دائرة اهتماماتها لتشمل البعدين، العربي القومي والاسلامي.
- أثبتت هذه المقاومة أنه لا يوجد فارق كبير بين الزمني والديني. فقد يخدم الديني الزمني، والعكس صحيح. والعباءة الدينيّة لهذه المقاومة، كانت اسلاميّة، وتحديدا شيعيّة. لكن استغلال النجاح فيها، لم يكن لصالح الشيعة في لبنان فقط. لا بل اتى ليصبّ في مصلحة الانتصارات العربيّة، حتى ولو كانت لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة. فالمقاومة في جنوب لبنان، كانت قد اعطت النموذج لمن اراد قتال «إسرائيل». وهي كانت المُلهم للانتفاضات في الاراضي المحتلّة. وهي، أي مقاومة حزب الله، وبعد إنجاز صفقة تبادل الاسرى، تكون قد اجبرت «إسرائيل» على الاعتراف بها كوجود، وذلك بعد ان كانت قد اعترفت بها سابقا من خلال اتفاق نيسان العام 1996.
بقيت هذه المقاومة ضمن الاطار الجغرافي المسموح به ضمن القوانين الدوليّة، حتى ولو كان حزب الله لا يعترف بالكيان الاسرائيلي. لكنه يلعب من ضمن قوانين اللعبة في ظل المخاطر عليه وعلى لبنان، وخصوصا بعد 11 سبتمبر/ايلول. وقد اثبتت هذه السياسة الحكيمة، بُعد نظر الحزب. فلو كان الحزب قد وسّع بيكاره خارج الاراضي اللبنانيّة، لكان هو الآن، سورية ولبنان تحت المطرقة العسكريّة الاميركيّة بعد حادثة 11 سبتمبر. اليس هو الفريق «أ» بالنسبة إلى الادارة الاميركيّة؟
- ويبقى السؤال، هل ان إنجاز الصفقة بين حزب الله و«إسرائيل»، يعني بما يعني أنه سيكون هناك فكّ اشتباك، بهدف إعطاء البُعد السياسي دوره؟ فهكذا صفقات تتم عادة بعد ان يتعب فرقاء الصراع، أي صراع من القتال. فهل سنرى قريبا هذه الامور بين الحزب و«إسرائيل»؟ وما دور الدولة اللبنانيّة؟ وهل سنرى الجيش اللبناني، او دورا جديدا للامم المتحدة في الجنوب اللبناني؟ وهل يمكن عزل سورية عن هذه الامور، وهي التي كانت ولا تزال تدعم المقاومة الشرعيّة؟ وهنا لا بد من التأكيد، ان وضع حزب الله ومقاومته مرتبطان عضويا بما يجري في العراق، إيران وسورية والاراضي المحتلّة. وهو سيبقى طالما لم يوجد حلّ لكل هذه الامور. إذا الصراع لايزال طويلا.
هل يعني كلام السيدحسن نصرالله بمزيد من الانجازات، ان هناك شيئا كبيرا يُعدّ، كإنسحاب «إسرائيل» من شبعا مثلا؟ ممكن، لكن هذا الانسحاب سيمسخ صورة «إسرائيل» الردعيّة، ويجعلها ضعيفة مقارنة مع صورة حزب الله، وهذا ما يحاول تجنّبه شارون، الآتي لاسترداد وإستعادة صورة الجيش الاسرائيلي الردعيّة. هل سيتم إخلاء سبيل المقاوم الفلسطيني مروان البرغوثي؟ إذا نعم، فإلى أين سيُبعد؟ هل سيبقى داخل الاراضي المحتلة، ام سيأتي إلى لبنان؟
إذا ما تحقّقت هذه الاماني، فهل سينتهي دور حزب الله؟ أمور في عهدة المستقبل للإجابة عليها.
في الختام، تبدو الصفقة مفيدة للفريقين. هي مفيدة للسيدحسن نصرالله لانه وفّى بوعوده بعدم ترك أي أسير في سجون الاحتلال. فيكون بذلك قد استكمل تحرير الارض، بتحرير الانسان المقاوم. وستضع هذه الصفقة الحزب على ارضيّة اصلب، فيستمر على رغم استهدافه في مناسبات عدّة. ومن جهّة اخرى، تفيد هذه الصفقة شارون لتحقيق ما يأتي: صرف الانظار عن قضية الجدار الفاصل. صرف النظر عن تورطه في قضية الفساد، هو وابنيه. وبالتالي، صرف النظر عن فتح المشروع السلمي مع سورية، والذي قد يحتّم التخلي عن الجولان بحسب ما صرّح حديثا. لكن الاكيد يبقى، في ان مضمون صفقة تبادل الاسرى، وفي ظلّ غياب مشروع حل شامل وعادل للمنطقة ككل، هو مضمون للاستغلال السياسي التكتيكي فقط وبامتياز. فالامور لا تزال مفتوحة على كل اوجه الصراع، وهو صراع لم ينته بعد. فالمنتصر ينام عادة على امجاده، والخاسر يعيد حساباته تحضيرا للحرب المقبلة. وعملية تبادل الاسرى، هي جزء بسيط وبسيط جدّا، من الابعاد السياسية في الصراع، كما هي جزء بسيط من الابعاد العسكريّة، فحذار من التنعم بالنوم على الحرير
العدد 517 - الأربعاء 04 فبراير 2004م الموافق 12 ذي الحجة 1424هـ