ليست المرة الأولى التي يعلن فيها رئيس الوزراء الإسرائيلي عن استعداده للانسحاب أو إلغاء مستوطنات «عشوائية» أو التفاوض مع القيادة الفلسطينية لبحث أمور سبق التفاوض بشأنها في لقاءات عقدت في أكثر من عاصمة. فرئيس الوزراء الإسرائيلي (شارون أو غيره) تعهد مرارا بالانسحاب وأخل به، كذلك وقع أوراقا كثيرة ومزقها في اليوم التالي. فالمشكلة ليست في الكلام والوعود والتوقيعات والعهود كما ذكرت القيادة الفلسطينية، المشكلة في التنفيذ وتطبيق ما يقال على الأرض.
يقول المثل: «الحق الكذاب إلى باب داره». وهذا ما يمكن قوله عن شارون وغيره من رؤساء الوزارات الإسرائيلية المتتالية من عمالية وليكودية. فالكل وعد ووقع وتعهد، والكل خالف وعوده وتعهداته على رغم كل الضغوط الدولية وابداء الدول العربية استعدادها للتفاوض وقبول التسوية وتحقيق السلم وتغليب التعايش على لغة الحرب. وآخر المبادرات العربية تلك التي أعلنت في قمة بيروت ورد عليها شارون في اليوم التالي بهجوم كاسح على مقر الرئيس الفلسطيني في رام الله مجتاحا بذلك معظم الأراضي والمدن الفلسطينية.
الرد الشاروني على قمة بيروت كان واضحا في مدلولاته فهو استقوى بوصول الحزب الجمهوري إلى البيت الأبيض وإعلان صديقه جورج بوش خطة عمل هجومية على مختلف المستويات. آنذاك وجد شارون في استراتيجية بوش مناسبة للإعلان عن رفضه لكل الاتفاقات والقرارات والتعهدات والتسويات التي حصلت في السنوات السابقة بدءا من أوسلو إلى اللقاءات الأخيرة التي عقدها بيل كلينتون في منتجع كامب ديفيد. فشارون لم يرفض مبادرة قمة بيروت بل أطاح بكل ما أنجزه الرئيس الديمقراطي طوال فترة ولايته التي امتدت ثماني سنوات. وهذا الرفض لم يكن نتاج التفكير الإسرائيلي فقط بل كان نتاج قراءة سريعة ومحسوبة للاستراتيجية الأميركية الجديدة أيضا. فالثنائي بوش - شارون وجدا أن هناك فرصة تاريخية لفرض شروطهما على المنطقة انطلاقا من نزعة أيديولوجية (عدوانية) تنظر إلى الحقائق من فوهة مدفع لا من نصوص القانون وتوازن المصالح.
ما الجديد إذا عند شارون حتى يقبل ما كان يرفضه في الأيام الماضية؟ وما هي الدوافع التي أملت على رئيس الوزراء الموافقة على اتفاق الأسرى مع حزب الله ثم التقدم بمبادرة تقترح الانسحاب من غزة مطلقا بذلك قنبلة أدهشت مختلف القوى السياسية الإسرائيلية من ليكود وعمل؟
الجديد ليس سرا بل هو قديم يعود إلى بدايات التفاوض على الانسحاب من الأراضي المحتلة كما نصت عليه أوسلو. فقطاع غزة كان مشكلة سياسية - سكانية لمجموع المستوطنات الإسرائيلية إذ تعيش فيه 7 آلاف نسمة تتوزع على 14 مستوطنة مستقرة وثلاث متحركة تحتل مساحة 32 في المئة من مجموع القطاع الذي يعيش فيه نحو مليونين من الفلسطينيين عى بقعة تشكل 68 في المئة من أراضي غزة.
هذه المشكلة مكلفة اقتصاديا وأمنيا لأنها في النهاية تتطلب استنفار قوات أمن ودفاع على مدار الساعة لحماية كتلة بشرية تعيش في جنوب القطاع على الحدود المصرية الأمر الذي يقضي بمراقبة الأراضي والحدود برا وبحرا وجوا في وقت يزدحم القطاع بنسبة عالية من السكان الفلسطينيين تعتبر الأعلى في العالم قياسا بمساحة الأرض.
هذا جانب من المشكلة المزمنة. الجانب الآخر له صلة بالتطورات الجديدة وأبرزها لقاء شارون برئيس الوزراء الفلسطيني أحمد قريع، والدعوى المرفوعة إلى محكمة العدل الدولية ضد جدار الفصل العنصري... وأخيرا وهذا هو الأهم زيارة شارون إلى واشنطن للقاء صديقه بوش المهدد بالسقوط في الأشهر المقبلة.
شارون ليست عنده مشكلة في إغضاب العالم وحتى إغضاب حزبه (الليكود) فهو آخر من يسأل عن مصير «خريطة الطريق» والموقف الدولي من مسألة «جدار الفصل العنصري»، وكذلك لا يكترث كثيرا بكل ما يصدر من ملاحظات وانتقادات من مجموع عواصم العالم. الهاجس الوحيد الذي يقلق شارون (وبعده دولته) هو الموقف الأميركي ومصير استراتيجية بوش الهجومية التي يبدو أنها أصيبت بإرهاق شديد بعد سباق «ماراثوني» امتد من أفغانستان إلى العراق.
الجواب إذا يجب الاستدلال عليه من سياسة بوش والمأزق الذي وصلت إليه الاستراتيجية الهجومية التي تبيّن أنها غبية من كثرة طموحاتها الأيديولوجية وقلة وعيها بحقائق التاريخ وتوازن المصالح الدولية.
بوش الآن يعيش في مأزق، وشارون هو صديقه الوحيد الذي يجب أن يسعفه بعد أن مدته واشنطن طوال السنوات الماضية بكل أسباب القوة والعافية.
مبادرة شارون ليست الأولى ولكنها الأخيرة في عهد بوش قبل ان يلفظ الأخير أنفاسه في الأشهر المقبلة في حال استمرت التوقعات كما هي عليه الآن. فالتوقعات تقول إن منافس بوش عن الحزب الديمقراطي (جون كيري) بات يتقدم عليه بنسبة 53 في المئة إلى 46 في المئة. ويعود سبب التقدم إلى تراجع نسبة المؤيدين لسياسة بوش الخارجية ومنها حربه على العراق وارتفاع نسبة المعارضين له من 36 في المئة إلى 53 في المئة. بوش الآن في مأزق وجاء دور شارون لانقاذه ردا للجميل حين غطى بوش رفض شارون لمبادرة قمة بيروت.
الآن دارت الأرض دورتها ويتوقع أن تعقد الدول العربية قمتها المقبلة في تونس ويرجح أن تعاود الدول العربية تجديد مبادرة بيروت وإعادة طرحها. والسؤال: ماذا سيكون رد الثنائي بوش - شارون؟ الانسحاب من غزة (هذا لا يكفي) أم الانسحاب من كل الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة وإنهاء ملف ما كان يسمى بأزمة «الشرق الأوسط»؟ الجواب النهائي في واشنطن
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 517 - الأربعاء 04 فبراير 2004م الموافق 12 ذي الحجة 1424هـ