أدهى الحُجج وأدمغها لدى المعتدلين العرب اليوم هي أن «لا تستغلّوا دماء غزّة يا ممانعين». وفي شعور هذا الشعار يكمن التفسير. فهم يريدون له أن يكون ضامنا لما كان يراه لاسوال في حكمته الثالثة لعملية الاتصال «ربط مجموع الأجزاء المشكِّلَة لمجتمع ما لإنتاج استجابة تجاه المحيط».
مَحقُ الفكرة تلك نابع من عدم أصالتها من ناحية، ومن عدم شرعية قائليها من ناحية أخرى. ففي الأصالة عَرّف التاريخ ومن خلفه تجارب الأمم والديانات والشرائع دماء الشعوب المراقة على مذبح «المناهضة» لاعتداءات البشر الأشقياء على الحقوق بأنها صانعة الدول والحضارات.
فخلّد التاريخ المناضلة الفرنسية جيرمين تّيون إحدى المناهضات للقوات النازية خلال الحرب الكونية الثانية، وخلّد كلاوس فون ستوفنبرغ في ألمانيا، وهيرونيم سابالا في بولندا، وجان فان هويفن غودهارت في هولندا، وبييترو إنجراو في إيطاليا، وآريس فيلوفشتيوس في اليونان.
وفي شرعيّة القائلين حُبُورٌ ناقص لأصحابه. فهم لكي يكونوا سواء بأصحاب الحق أو قريبين منه بأدنى طرف، كان فَرْضُ الحال يُشير بهم إلى ضرورة التّمسك والعض بالنواجذ على «إنسانية» ما جرى لغزّة والغزّيين على أقل تقدير.
أما أن يستمرؤوا الصمت الجهري أمام كل هذا الدمار (فقط) نّكاية بحماس، أو طمعا في قضم أوراق المحور السوري الإيراني فهذا سَفَهٌ لا يسحب الشرعية من قولهم فقط؛ وإنما يستوجب التأنيب والعقوبة السالبة لما هو أزيد من الزّجر.
وهنا ألاَ يحقُّ لنا التساؤل: لماذا لم يُوجّه المعتدلون العرب كامل خصومتهم تجاه الكيان الصهيوني (على الأقل) خلال العدوان على غزّة؟! ولماذا شاطروه الضرب تحت حزام حماس ومناصفتها (معه) اللوم والتخوين وهي في أتُون المعركة؟! أَلَيس هذا تتفيه وسَمَاجة موقف؟!
ألاَ يستحق الدم الفلسطيني المرفوع على المِجْلَد نُتَفا من التأجيل الإرادي اللازم (من قِبَلِهِم) لتلك الحسابات خلال المعركة مع عدو مشهود، لم يُوفّر وسيلة في إظهار عدائه لنا، احتلالا وقتلا واعتقالا واغتصابا وبصقا إلاّ وركبها؟!.
لماذا أعلنت الأحزاب الصهيونية قاطبة خلال عملية الرصاص المسكوب تأجيل كل برامجها «الانتخابية» دعما لـ «جيش الدفاع» ولم يفعل ذلك المعتدلون العرب مع حركة حماس؟! هل كان الأمر عصيّا عليهم؟! أم هو الخصام بالعَي؟!.
اليوم يتمّ تجريم حركة حماس في اختصاراتها للأمور كما يُدّعى. فاختصرت منظمة التحرير في الأنا الحمساوية. ورأس الشرعية الفلسط ينية وهو محمود عباس (كما تُحِب أن تُسمّي ذلك فتح) في إسماعيل هنيّة. واختصار كل فلسطين في قطاع غزّة. يُقال كل ذلك وكأن الذاكرة بائسة إلى الحدّ الذي لا يُمكنها استذكار ما رمشت عليه العين قبل حين.
ليس أكثر اختصارا للساسة الفلسطينيين في منظمة التحرير، ومن المنظمة في حركة فتح، والأخيرة في المجلس الثوري، والمجلس في غير هاني الحسن وأحمد حلّس. ثم ليس هناك اختصار أكثر من اختصار القضية الفلسطينية برمتها في أوسلو، ولأرض فلسطين في الـ 22 في المئة (المُتَفَاوَض عليها) والباقي هدايا السلام لتل أبيب.
ومن اختصار مدينة القدس في الحوض المقدّس (سلوان وجبل الطور وجبل الزيتون)، ومن تينك الأمور في الأقصى والحرم القدسي، ومن المقدسات في هيكل سليمان. إذا كان هناك من اختصارات فهي هنا وليس في أماكن أخرى تُتّهم فيها حماس.
لا أظنّ أن أحدا بِنَاسٍ ما كانت تقوله حركة حماس ومسئولوها لإتمام الصلح: إعادة بناء الأجهزة الأمنية على أسس مهنية، وكذلك منظمة التحرير، وإطلاق سراح كوادر وقادة حماس الثمانمئة في سجون الضفة الغربية. واليوم فكّ الحصار وفتح المعابر. هل هذا غير معقول بالنسبة للمعتدلين العرب؟! أرجو أن يكون ذلك مُستطاعا.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 2344 - الأربعاء 04 فبراير 2009م الموافق 08 صفر 1430هـ