للنصر ألفُ أبٍ مدعٍ، أما الهزيمة فالكلّ يتبرأ منها كالطفل اللقيط. أُبهة النصر تفرض حتى على رئيس الوزراء (عدوك اللدود) الاصطفاف لاستقبالك في المطار على السجاد الأحمر، على رغم ما أمطرك به من لعنات لسنوات طوال. والدليل هو خطٌ فاصلٌ لا يتجاوز مئة متر فقط، اسمه بوابة فاطمة. فمن وراء هذه البوابة يقوم خط «الاستواء» العربي، بين المقاومة الفلسطينية المحاصرة المخذولة وبين المقاومة الباسلة المنتصرة التي ركّعت «إسرائيل» بعد أن اعتادت تركيع «العرب» فلم تدفع عنهم جامعتهم الكبرى، ولا جيوشهم العظمى من بطش وجبروت «إسرائيل» شيئا.
عندما انطلقت الانتفاضة الفلسطينية الأولى قامت دنيا البلاغة العربية تجلجل، وقام الشعراء بصنّاجاتهم الموروثة يغنّون لأطفال الحجارة الذين سيعلّمون صهيون معنى الهزيمة. ووسط الضجيج كله مازلت أذكر جيدا ما كتبه الكاتب والمفكر السوري شاكر مصطفى من نعي لأمةٍ أصبحت تعتمد في الدفاع عن نفسها على الأطفال. ولاشك أن كل من قرأ ذلك الكلام أحسّ بالغيظ من الكاتب الذي لم يتجاوز الحق فيما قال. فلا ترتجوا خيرا في أمةٍ تتخلى دولها الكبار عن الواجب، وتضع كل طاقاتها العسكرية والبشرية في الثلاجة باسم الواقعية والظروف العالمية غير المواتية، وترسل الأطفال إلى ساحات القتال للدفاع عن كرامتها المهدورة منذ أكثر من نصف قرن.
وما كشف عنه سياق الحوادث أثبت صحة ما رأى الكاتب. فبعد أن وصلت الانتفاضة الفلسطينية الأولى الذروة وما رافقها من حماس شعبي وتفاعل جماهيري رأينا الشاعر المعروف نزار قباني يرفع صوته زاعقا: «لا تخافوا موسى ولا سحر موسى»، وانتهت تلك التضحيات بإدخال قوات فلسطينية من الشتات للقيام بأداء المهمة الأصعب: «ضبط» الأمن الفلسطيني لصالح المحتل. والمرء مهما أوتي من سعة خيال فإنه لا يمكن أن يستوعب وجود 33 جهازا أمنيا في أراضٍ محتلة منهوبة استباحها الإحتلال وأضناها القتال.
رأس أحمد ياسين
هذه القصة تعاد اليوم رواية فصولها وإن بطريقة أخرى. ففي وسط الأجواء الاحتفالية الكبرى التي عشناها، ننسى أننا مازلنا في زمنٍ أدمنّا فيه الهزائم حتى الثمالة، وباتت أكبر إنجازات قادتنا وكبرائنا السعي الحثيث إلى مرضاة «إسرائيل»، فهم مستعدون لتسليم كل شيء، الأرض والمياه والإنسان والمكان، ورأس أحمد ياسين وعذراوات فلسطين مقابل أن تهدأ فحسب. وأكبر دولة عربية تتفاخر بلعب دور «العرّاب»، ولكن... عرّابٌ على ماذا؟!
يجب ألا ننسى أن ما تحقق على يد ثلةٍ قليلةٍ من الفدائيين المخلصين من نتائج اعتبرها الكثيرون أكبر نصر في تاريخ العرب، هو في الوقت ذاته أكبر إدانة للنظام الرسمي العربي، بجيوشه وجامعاته وبنوكه وهيلمانه. ما حدث في لبنان، البلد الصغير المستضعف طويلا، المحتل طويلا، هو من أكبر دلائل العار الذي يلفح وجوه دولنا وأنظمتنا العربية ويجلّلها بالخزي والذل المقيم. وكأن الشاعر القديم كان يتحدث عنا نحن بالذات حين قال قبل 15 قرنا:
ولا يقيم على ذلٍّ يُراد به إلا الأذلانِ عيرُ الحيِّ والوتدُ
ويا للمهانة الكبرى حين نكون هكذا في ميزان النقد التاريخي الصادق حسب هذا التقييم إذ لا نزيد على مسمارٍ أو حمار!
فـ «ياحزب الله»، اسمح لنا بألا نقبل اعتبار ما قمت به نصرا لنا نحن المدمنين على الهزيمة. ما نحن إلاّ أوتادٌ للخيام العربية العريقة وسط الصحراء، فاذهبوا يرحمكم الله، لكم «نصركم» وحدكم، واتركوا لنا هزائمنا!
الوسط - قاسم حسين
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 516 - الثلثاء 03 فبراير 2004م الموافق 11 ذي الحجة 1424هـ