أخيرا وافق الرئيس الأميركي جورج بوش على تشكيل لجنة مستقلة من الحزبين الديمقراطي والجمهوري للتحقيق في تقارير الاستخبارات بشأن امتلاك العراق «أسلحة دمار شامل». ويرجح أن يختار بوش تسعة من أعضاء اللجنة وسيطلب من قيادات الكونغرس اختيار بقية الأعضاء.
وجاءت موافقة الرئيس الأميركي بعد تعرضه لموجة من الانتقادات العامة تركزت على حربه على العراق وإخفاق إدارته في تبريرها أمام الرأي العام، الأمر الذي طرح سلسلة علامات تعجب واستفهام عن الأسباب الحقيقية التي دفعت واشنطن إلى شن حربها بالضد من مجلس الأمن وقبل انتهاء بعثة التفتيش من مهماتها.
موافقة سيد البيت الأبيض على تشكيل اللجنة تعتبر خطوة تراجعية كبيرة أمام هجوم الحزب الديمقراطي بعد أن نجحت قيادات الأخير في تحويل مسألة العراق من نقطة قوة لإدارة الحزب الجمهوري إلى نقطة ضعف. فالرئيس راهن على مسألة العراق كرافعة معنوية لمقدار نجاحه في سياسته الخارجية واعتمد عليها كقوة ثقل في معركة الرئاسة المقبلة، ولكنها أخذت تتحول إلى نوع من «انفلونزا الطيور» التي تنتشر بسرعة وتنتقل من دون عوائق من مكان إلى آخر. فالرئيس أُكره على تشكيل اللجنة لأن الخيارات الأخرى أسوأ.
المسألة العراقية إذا انتقلت كانفلونزا الطيور من بغداد إلى واشنطن وبات على إدارة البيت الأبيض أن تجيب في الشهور المقبلة عن أسئلة مقلقة تثير الشكوك في صدقية رئيس تعهد بمكافحة «محور الشر» من دون أن ينتبه إلى أن «منبع» الشر يقع على مقربة منه في مبنى «البنتاغون».
تشكيل اللجنة هو أفضل الخيارات السيئة بالنسبة إلى بوش لأن الإصرار على رفض فتح التحقيق في موضوع «أسلحة الدمار الشامل» سيتحول إلى ثغرة كبيرة في جدار الحزب الجمهوري وستبدأ المعلومات بالانسياب أو التسريب إلى جهات مختلفة، ما سيؤدي إلى نوع من الفوضى السياسية في وقت يحتاج الحزب إلى هدوء لا يشوش على طموحات الرئيس.
اللجنة إذا هي أفضل الخيارات السيئة إلا أنها ليست نهاية المطاف. فالمرحلة طويلة وشاقة وعلى دربها تمتد مطبات وثغرات كثيرة يرجح أن الرئيس لن ينجو منها كلها. فالمسألة باتت أقرب إلى الرمال المتحركة، وكلما تحرك الرئيس خطوة بقدمه اليسرى غرقت اليمنى أكثر في بقعة أخذت بالانتشار كالزيوت المتسربة من ناقلة نفط.
فتح التحقيق في مسألة «أسلحة الدمار الشامل» يعني بداية التحقيق في ملف الحرب على العراق. وملف العراق لا يمكن فصله عن ملف الحرب على أفغانستان. والملف الأفغاني يحتوي على أوراق كثيرة أهمها تلك المتعلقة بضربة 11 سبتمبر/ أيلول.
بوش تذرع بهجمات سبتمبر لشن حربه على أفغانستان متهما نظام «طالبان» وتنظيم «القاعدة» بمسئوليتهما عن الضربة. وجاءت الحرب قبل استكمال ملف التحقيق ومن دون أن ينتهي عمل الجهات المكلفة بالبحث وتحديد الجهة المسئولة مباشرة عن تلك الهجمة. فقرار الحرب على أفغانستان استند إلى الظنون والشبهات ولم يعتمد على وثائق دامغة تؤكد مسئولية كابول عما حدث. فالقرار كان ردا على حاجة داخلية تأزمت بسبب اندلاع معركة بين الجبهات الأميركية المولجة بالأمن القومي والدفاع. فالحرب على أفغانستان جاءت لتغطية الفضيحة الداخلية وهذا الخرق الواضح لكل أجهزة المراقبة والتنصت التي تكلف خزينة الدولة مليارات الدولارات سنويا.
الحرب على أفغانستان جاءت بسرعة للتغطية على أوراق 11 سبتمبر السرية ولقطع الطريق على الصراعات التي نشبت بين أجهزة الأمن المختلفة واتهام كل طرف الآخر بأنه المسئول عن الإهمال. ثم جاءت الحرب على العراق لاستكمال مشاعر الفخر والاعتزاز بالقوة العسكرية في وقت شهدت أجهزة الأمن المزيد من التجاوزات بسبب تلك الحملات البوليسية التي شنتها الشرطة والمخابرات ضد الآلاف من المسلمين والعرب وغيرهم من المواطنين أو المقيمين في الولايات المتحدة من دون احترام للحد الأدنى من الحقوق المدنية والحريات الفردية.
ملف «أسلحة الدمار الشامل» ليس حلقة مستقلة أو منفصلة عن حلقات أخرى. وتشكيل لجنة للتحقيق في ملف العراق يستدعي لاحقا تشكيل لجنة ثانية للتحقيق في ملف أفغانستان. والملف الأفغاني بدوره يفتح الطريق أمام تشكيل لجنة ثالثة للتحقيق في حوادث 11 سبتمبر.
السلسلة مترابطة فعلا وكل حلقة لها صلة بما قبلها. والرئيس بوش لا يستطيع التهرب من مسئولية كشف الحقائق أمام الناس في وقت يطمح لتجديد رئاسته. وإذا نجح بوش سابقا في إقفال ملف التحقيق في 11 سبتمبر بسبب الضغوط على رئيسها هنري كيسنجر ونائب رئيسها جورج ميتشل واضطرارهما إلى الاستقالة بعد رفض الأجهزة الأمنية تسليمهما أوراق التحقيقات في الضربة، فإن نجاحه الآن من الإفلات من اللجنة الجديدة بات من الأمور الصعبة. فالأمور اليوم تبدو وكأنها تغيرت ولم يعد بالإمكان التهرب وإخفاء الحقائق التي تفضح الأوراق السرية في الملفات المغلقة
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 516 - الثلثاء 03 فبراير 2004م الموافق 11 ذي الحجة 1424هـ