في آخر هذا الشهر فبراير/ شباط 2004 ستعقد ندوة عربية واسعة تنظمها مؤسسة الفكر العربي في بيروت بشأن التعليم العربي العام، إصلاح ومناهج، في فترة الإعداد نفسها أصدرت بالمصادفة مجلة الايكونومست البريطانية المعروفة في آخر عدد لشهر يناير/ كانون الثاني تقريرا عن التعليم العربي نواقصه وتأثيراته، وهو واحد من التقارير العديدة التي تدفقت على العرب تصف ضحالة تعليمهم وهشاشة مؤسساتهم التعليمية، وكان أشدها نقدا هو تقرير التنمية بجزئيه للعام 2002 والعام 2003. وهو الذي أصبح اليوم أحد المراجع لكل من يريد أن يشير إلى تخلف العرب العلمي!
لا تنقصنا اليوم الحجج والشواهد على وجود حقيقتين حولنا، الأولى أن العالم لم يتقدم ولا يتقدم من دون المعرفة، تلك حقيقة أثبتها تاريخ البشرية الحديث منذ أكثر من قرنين على الأقل، منذ ثورة الميجي في اليابان في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، مرورا بالثورة الصناعية في أوروبا وثورة المعلومات المعاصرة التي نشهدها الآن، أما الحقيقة الأخرى فان التعليم العربي لم ينهض لمواجهة التحدي الذي واجه العرب، وهو حتى اليوم مقصر في ذلك.
أما إذا بحثنا في الأسباب فهي كثيرة، ينظر إليها البعض من زوايا مختلفة، أما الحقيقة التي لا يستطيع عاقل أن يتجاوزها فهي أن القصور مازال مستمرا، على رغم كل التقارير وعلى رغم كل الآراء النيرة التي قيلت من رجال التعليم العرب في السابق واللاحق، وغيرهم من المهتمين بضرورة تغيير هذا التعليم الشكلي الذي نمارس، إلى تعليم حقيقي يستجيب لمتطلبات العصر.
لعل أحد الأدلة الصارخة على قصور التعليم العربي، من حيث الكيف أن معظم المسئولين العرب عن التعليم إذا توافرت لهم الفرصة، واتيحت لهم الوسيلة، فإنهم لن يترددوا في إرسال أبنائهم إلى مدارس خاصة في الوطن أو خارجه من اجل التعليم! ومعرفتي بالبعض تؤكد ذلك.
في الوقت الذي تقول لنا كل الدراسات، ان كلفة التعليم العام، في الدول العربية، اكبر بكثير من كلفة التعليم الخاص، على الخواص!
فالمشكلة هنا إذا ليست مالية بل مؤسسية.
تنقل نكتة ثقيلة عن مواطن سوفيتي في الأيام الخوالي انه سئل ما أخبار العلاقة بأميركا قال انتظر حتى اقرأ البرفدا (الصحيفة الرسمية) ثم سئل وماذا عن أخبار الاقتصاد قال انتظر حتى أقرا البرافدا، ثم سئل أخير وهو ينتفض من البرد، وما أخبار الجو هذا اليوم، قال لم أقرأ البرافدا بعد!
لعل هذه النكتة المرة تتجلى من جديد في خريجي مدارسنا وجامعاتنا، فمعلوماتهم العامة ضئيلة إلى درجة تثير العاقل وتحير الحكيم، ومهاراتهم التقنية والفنية معدومة، فأصبح تعليمنا في جله تعليم تلقيني لتخريج كتبة في الدولة أو مواطنين لا يملكون ممحية أبجديتهم، يجيدون النقل ولا يعرفون قيمة العقل، ولا غرو بعد ذلك أن يؤخذوا حقا أو غير ذلك بالإيديولوجيات التي تعتبرهم أنفارا في قطيع وليس بشر لهم عقول.
لقد خلط البعض كثيرا وطويلا بين تعليم وبين تجنيد، في الثاني المطلوب الطاعة وسماع الأوامر وفي الأول المطلوب المجادلة والنقاش والشك.
في تجربة جرت منذ أسابيع في الجامعة التي أدرسُ فيها، قررت أن اختبر قيمة مهمة في التنمية الحديثة وهي قيمة (الثقة) فأعلنت لطلابي أن الامتحان الأخير لن يكون عليه رقيب مني أو من غيري، رقابتهم تنبع من أنفسهم، وفعلا تم الامتحان، وعند الانتهاء منه، سئل زميل لي عددا كبيرا منهم، هل قمت بالغش، وكانت الإجابة صاعقة، لقد امتنعنا عن فعل ذلك لأننا نعتقد أن الجامعة والأستاذ قد وضعوا (كاميرات) لمراقبتنا!
لا أفضل من مثل هذه التجربة التي تقدم لنا بوضوح كامل كيف استطاع التعليم الذي نقدمه في بلداننا من غرس رقابة افتراضية تنبع من الداخل، من الإنسان الذي يذكرك بإنسان البرافدا سابق الذكر.
تجربة ماليزيا التي نتحدث عنها كثيرا بدأت بقرار إصلاح التعليم، ومنها انطلقت إلى ما نعرفه اليوم من مساهمة عالمية في التنمية التي حققت لبلدها كل هذه الثروة والسمعة، وبلاد أخرى أيضا بدأت التغيير من التعليم، بل ان بلدانا غربية أخرى كل ما واجهها تحد لجأت إلى التعليم، تنظر فيه وتقوم بتقويمه.
ولعل بعضنا يذكر التقرير الشهير الذي صدر في الولايات المتحدة بعد نجاح الاتحاد السوفيتي في وسط الستينات من القرن الماضي لإرسال رجل إلى الفضاء، لقد كانت الصيحة وقتها انتبهوا إلى التعليم، ومازالت بلاد مثل بريطانيا تتحدث برامجها السياسية عن نقلة نوعية في التعليم، وهي بلاد توصف على أنها متقدمة.
لقد أثقل التعليم العربي بأشكال من (الادلجة) و(القطعية) خلال سنوات طويلة، وتوارث العرب في بلادهم المختلفة وعلى درجات مختلفة هذه الادلجة والقطعية وسرعان ما تسربت إلى المناهج المدرسية، في الوقت الذي تؤكد كل تجارب العالم أن التعليم في أي موضوع هو نسبي وليس قطعيا، فالتلميذ الذي كان يجيب عن إمكان انشطار الذرة قبل أن يكتشف ذلك انيشتاين في العشرينات من القرن الماضي، كان يسقط في الامتحان، بعد ذلك بسنوات من يقول انها لا تنشطر يلاقي المصير نفسه. اقصد أن العلم نسبي، منذ أن قال هيروقليطس قوله المشهور ( انك لا تستطيع أن تنزل النهر مرتين) أي أن الأصل في الأشياء هو الحركة لا الجمود. وان أخذنا بعض الأمثلة نقول إن الخطوط العريضة للنظرية الاقتصادية الحديثة قد تغيرت وتبدلت منذ ادم سميث إلى روبرت سولو (الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد) فلو عاش الناس على نظرية ادم سميث لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه من (عولمة). إذا وضعنا الوعود والتأكيدات العامة الصادرة من الأجهزة الحكومية العربية جانبا فان إصلاح التعليم لم يتعد تلك الوعود العامة، ويبدو أن أصلاح المناهج هو في صلب إصلاح التعليم، إلا انه في الظروف والمعطيات الحالية، يكاد أن يكون شبه مستحيل، بالمعني الذي ينقل التعليم العربي إلى آفاق مرتجاة، فمن قمنا بتعليمهم شربناهم على طول السنين (ينبغيات) يكاد لا يستطيعون منها فكاكا، فأصبحوا هم، لا غيرهم سدا منيعا للتطور! لذلك أصبح هناك اليوم في فضائنا العربي ما يمكن أن يسمي المناهج التعليمية الموازية، وهي أشكال من التعليم ظهرت أولا فيما سميناه (المدارس الخاصة) وان كان على استحياء، ثم في الابتعاث إلى الخارج بعد ذلك، وهو اليوم يكاد أن يُوطن في أكثر من بلد عربي، واعني به ظهور الجامعات المشتركة بين بعض العرب وبعض الغرب، ربما مثل هذه الخطوات هي هروبية في أحسن أحوالها، لأنها تزيد من تقسيم المجتمع، وتترك التعليم العام نهبا للتردي والتصحر، إلا أنها للعاقل ربما خطوة قد تؤدي إلى الأفضل بعد حين. هذا المنهج الموازي يقدم لشرائح في المجتمع العربي فرصة عدم الوقوع في تصادم مع القوى المحافظة التي ترغب، بسبب مصالح لها أو بسبب أفكار ومعتقدات، أن يظل الحال كما هو يراوح في مكانه، إلا أن السؤال هو هل تستطيع هذه المؤسسات ذات المنهج الموازي أن تقدم من المعرفة ما يعتقد القائمون عليها أنها تفعل؟ أم أن هناك بعض الخيوط المرئية وغير المرئية التي تربط بحبل سري مؤسسات المنهج الموازي بشئون الدولة؟ لم تزل الجهود والأموال المستثمرة في مؤسسات التعليم ذات المنهج الموازي محدودة، أكانت الجامعة العربية المفتوحة أو الجامعات المشتركة التي تتكاثر.
سيظل أهل التعليم العرب في حيرة، ليس لنقص في أفكارهم وتطلعاتهم، إنما بسبب افتقاد المجتمعات العربية إلى (إرادة التغيير) وهي في يد السياسيين أكثر منها في يد التربويين
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 515 - الإثنين 02 فبراير 2004م الموافق 10 ذي الحجة 1424هـ