كلمة لابد منها، في يومٍ أراد الله أن يكون علامة للوحدة بين المسلمين، فإذا بالمسلمين يتخذونه يوما للفرقة والشتات.
من أكرمه الله بأداء الحج الاكبر، لابد أنه عاش تجربة روحية من نوع جديد. هناك يقف الجميع على صعيد واحد، لا مجال لأحد أن يشمخ بأنفه، أو يترفع على سواه. في ذلك الليل البهيم تركب الجبل لتلتقط الأحجار الصغيرة اللامعة من بين التراب. تشهد إلى جانبك أغنياء جاءوا من بلاد الوفرة النفطية رجالا ونساء، حملهم الواجب على خلع الملابس الفاخرة والتخلي عن العطور وبهارج الدنيا، لا يسترهم غير قطعتين من القماش الرخيص الذي لا يزيد ثمنه على بضعة دنانير. هناك في الصحراء الموحشة يبيت الأمير إلى جانب الفقير في العراء لا يظله سقفٌ غير السماء المرصعة بالنجوم. أراد الله بحكمته أن تخضع له النفوس المترفعة وتتصاغر، تربية لعباده على الطاعة والامتثال، وإحياء لسنة أبي الانبياء ابراهيم (ع).
وفي يوم العيد بالذات تكون الالتزامات الأشق، هناك يكون للعيد معنى حقيقيا، كما نفهمه من قراءتنا للإسلام، الذي اختار نهاية كل موسم عبادي كبير ليتوّجه بعيدٍ عظيم. من هنا شاعت العبارة التالية واشتهرت: «العيد عيد الحجاج». أما هنا فيشعر المرء بالألم والحسرة وهو يشاهد مظاهر الفرقة والاختلاف على عيدٍ يُحتفل به في يوم ثانٍ أو ثالث، وبحسب الرواية (أو الامنية) الأميركية حتى في اليوم الرابع، إذ أعلن أحد أقطاب مجلس الحكم العراقي عن تمديد عطلة العيد حتى خمسة أيام، وليحتفل به المسلمون كيفما شاءوا ووقتما شاءوا! وبعد ذلك نريد من الاميركان أو الغربيين أن يعاملونا كأمة تستحق الاحترام من الآخرين!
هذه المشكلة تواجهنا كل عام، وربما يلتمس البعض بعض العذر في الاختلاف بداية شهر رمضان ونهايته لارتباطه بالصوم والإفطار، إلا ان ما يدعو للاستغراب ان يحدث الاختلاف عند الكلام عن عيد الأضحى، فهذا العيد يرتبط بشعيرة إسلامية كبرى تشهدها الأراضي المقدسة في الحجاز في أجلى مظاهر الوحدة، وما ينبغي للمسلمين في الأقطار الأخرى أن يختلفوا عليها، خصوصا أن أبلغ الدروس التي يخرج بها الحاج هو اكتشافه ذلك الهدف السامي لتحقيق الوحدة ولمّ القلوب.
ألا يكفي نصف قرن؟
وإذا كنا نحن في البحرين ممن عانوا ويعانون من هذه الفرقة، فلنبحث عن أسبابها، بعيدا عن السياسة ومزالقها. لنبحث عن أسبابها ونطرحها تحت ضوء الشمس بحثا عن العلاج. ألا يكفي أن وصلت الأمور ليس بين المذاهب فحسب بل داخل أتباع المذهب الواحد إلى بروز هذه الخلافات المخجلة على تحديد هلال؟ هل يعقل أن يمتد هذا الاختلاف حتى تمر عدة أيام من بداية الشهر القمري، وأحيانا يختلفون على تعيين منتصف رمضان أو حتى ليلة الحادي والعشرين؟ أليس هذا مخجلا؟ وتتكرر هذه المأساة الهزليةوتعاد كل عامٍ، كل عام، من دون كللٍ أو مللٍ أو مراجعةٍ أو محاسبةٍ او وقفةٍ مع الذات. من المستفيد من هذه «القرحة المزمنة»؟ أليس من المخجل أن تشهد نهاية شهر رمضان المبارك الأخير تقدّم عدد من الرجال المعروفين بسيرتهم واستقامتهم، وبعضهم رجال دين أيضا، بمشاهدة الهلال فلا يتم الأخذ بشهادتهم، من دون مبرر مقنع من عقل ولا شرع، غير انهم من منطقة أخرى أو قرية أخرى.
شرع الله سهلُ المورد، ودينُ الله دينٌ رفيق، ورجل الشارع البسيط يعرف ان إثبات الهلال لا يحتاج إلى أكثر من شاهدين تثق بهما، وإذا وثقت بشهادة رجل واحد واطمأننت إلى قوله فيمكنك الإفطار كما في كتب المسائل الفقهية المتداولة، بينما المتصدّون لمثل هذه القضايا لا يأخذون بشهادة مجموعة من العدول، ولنا أن نتساءل عن السبب: هل تدخل السياسة فيها؟ أم هي الروح الفئوية التي تحكم النفوس؟ أم أن كل مدينة أو قرية تريد أن تقول أنا هنا؟
إنها ليست زفرة مصدور سئم من هذا الوضع الممل الكئيب، بل هي قضية يطرحها الشارع كل عام، تسمعها في المسجد والنادي والجمعية السياسية والصندوق الخيري، وفي السوق والبرادات وعلى قارعة الطرق. الناس ملّت وسئمت، كفانا وكفى آباءنا وأجدادنا هذه الاستهانة بالناس وأمورهم، إذ بلغ الامر في بعض السنوات أن يصل الإعلان عن العيد وقت الضحى بعد أن باتوا صائمين، وكأن الهلال لا يظهر إلا بعد طلوع الشمس وتوسطها كبد السماء، فهل هناك من يفكر من أبناء هذا الزمان من علماء الدين الأفاضل بالعمل على ألا يرث الجيل القادم هذه التركة المحزنة؟ هل من أمل بتجاوز هذه المصاطب والعتبات القديمة رفقا بالناس وحفظا لمقاصد الشرع الحنيف؟ من يتحرك من الجيل الناهض هذه الأيام للبحث عن مصباح في هذا الديجور البغيض؟
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 515 - الإثنين 02 فبراير 2004م الموافق 10 ذي الحجة 1424هـ