بعد أن تنفّس رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير الصعداء، بعد صدور تقرير اللورد هاتن في قضية انتحار خبير الأسلحة ديفيد كيلي، وتفاديه هزيمة في مجلس العموم البريطاني بشأن مشروع قانون مثير للجدل يزيد الرسوم الجامعية، صدرت الصحف البريطانية وعلى صفحاتها نتائج لاستطلاعات الرأي تظهر عدم ثقة الشعب البريطاني به وصدقيته، وبلغت النسبة المنشورة التي أجرتها وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والتي طرحت سؤالا واحدا وصريحا يقول: من تصدقون بلير والحكومة أم الـ بي، بي، سي، وجاءت النتيجة أن أكثر من 76 في المئة من الذين شاركوا في هذا الاستطلاع يصدقون الـ بي. بي. سي.
وهنا يبرز السؤال الذي فرض نفسه منذ قيام الحرب على العراق والذي عارضه غالبية البريطانيين، ومنذ تعثر مسيرة الإصلاح الصحي والتربوي في البلاد: ما أثر هذه الهزات المتكررة على حياة بلير السياسية؟ هل يبقى رئيسا للوزراء حتى نهاية عهده؟ هل يقود حزبه في الانتخابات المقبلة؟ أم أنه سيضطر إلى الاستقالة ليرثه وزير ماليته غوردن براون؟ وهل يستطيع حزب العمال أصلا الفوز بالانتخابات المقبلة؟ بعد أن أصبحت الثقة بقيادته شبه مفقودة، وبعد أن اضطرت هيئة الإذاعة البريطانية «بي. بي. سي» إلى تقديم اعتذار إلى رئيس الوزراء بلير وحكومته، بعد أن وجه إليها القاضي اللورد بريان هاتن، تعنيفا بسبب تقريرها عن تلاعب مزعوم للحكومة في ملف الأسلحة العراقية، وما تبعه من ملابسات انتحار خبير الأسلحة ديفيد كيلي، وجاء نتيجة لهذا التعنيف استقالة رئيس الـ بي. بي. سي. غافين ديفيس، ومديرها العام غريغ دايك وهو موضع ثقة ومحبة الموظفين.
للبي بي سي مكانة خاصة في حياة البريطانيين، وهي أقدم مؤسسة إعلامية وشهرتها عالمية وليست محلية فقط، بعض العارفين والمحللين يعتقدون أن بلير سيكون الخاسر في النهاية ولا يمكن لأي شخصية سياسية أو حكومة إهانة أو زعزعة مكانة مسئولين كبار في مثل هذه المؤسسة الإعلامية.
«الوسط» وقفت على آراء بعض الشخصيات السياسية والأكاديمية والإعلامية في هذه القضية من خلال الإجابة على جملة من الأسئلة.
وزيرة التنمية السابقة والنائبة في مجلس العموم والمعارضة السياسية «كلير شورت»، رأت أن هناك الكثير ممن ينتقدون الأحكام التي جاء بها تقرير اللورد هاتن والذي برأ ساحة رئيس الوزراء بلير وحكومته، وألقى باللوم على الـ بي. بي. سي. إدارة وتحريرا. وقالت إن بلير منشغل بإيجاد موقع له في التاريخ وانه ضلل الشعب عندما ذهب مع الأميركيين إلى الحرب ضد العراق، بحجة أن العراق يمتلك أسلحة دمار شامل وأنه يهدد أمن بريطانيا والعالم. وأضافت أن عليه الاستقالة وهذه هي الخطوة الأخلاقية التي تحتمها عليه الظروف الراهنة.
وتضيف الوزيرة المعروفة بصداقتها مع منافسه على رئاسة الحزب وزير المالية غوردن براون، من الضروري إفساح المجال لآخرين لقيادة الحزب، من أجل أن ينجح الحزب في الانتخابات المقبلة وليحافظ على أكثرية مطلقة داخل مجلس العموم.
استاذ مادة الحكومات والعلوم السياسية البروفسور طوني ترافيس يقول، ان حوادث هذا الأسبوع جاءت بنتائج سعيدة لرئيس الوزراء لم يكن يتوقعها، ومنحته وحكومته ثقة واستقرارا ودفعا جديدا، ولكن هذا لا يعني أن مشكلاته انتهت، وتبقى قضية ما إذا كانت الحرب على العراق محقة أم لا؟ وهذه قضية سترافقه لوقت طويل، وتبقى هناك العوامل المفاجئة أو الطارئة التي قد تطيح به وبحكومته.
ويضيف ترافيس أنه أصبح من شبه المؤكد أن بلير سيقود حزبه إلى الانتخابات القادمة والتي سيفوز بها حزب العمال، ولكن لا اعتقد أن بلير سيكمل ولايته الثالثة، والأغلب أنه سيترك الحكم بعد ولايته الثالثة بـ 18 شهرا، لأن البريطانيين وطبيعة الحياة السياسية البريطانية لا تتحمل أن يبقى رئيسا للوزراء أكثر من 8 أو 9 سنوات، ومعظمهم لا يحكم أكثر من 6 سنوات.
أما عن مستقبل وزير المالية غوردن براون واحتمالات توليه منصب رئيس الوزراء بعد بلير، فقال ترافيس ان المقابر السياسية مليئة بجثث شخصيات كانت تنتظر مثل هذه الوراثة. ولو راقبنا تاريخ الحكومات البريطانية لوجدنا أن أشخاصا مثل مارغريت ثاتشر وجون ميجور، لم يتوقع أحد فوزهم بقيادة حزبهم وبالتالي برئاسة الوزراء. ومن هنا فإنه من الصعب اليوم تقدير فرضية توليه منصب رئيس الوزراء بعد بلير.
رئيس تحرير القسم السياسي في صحيفة «التايمز»، ريتشارد بيستون يعتقد أن فرص بلير في خوض حزبه الانتخابات القادمة بقيادته تعززت هذا الأسبوع. وأن ضعف المعارضة وخسارتها الجولات السياسية الأخيرة بالنسبة إلى تقرير اللورد هاتن وكسب بلير التصويت بشأن الرسوم المدرسية ساهمت في هذا التعزيز.
ويضيف بيستن أن بلير خسر الكثير من شعبيته وصدقيته وقضية الحرب على العراق ستبقى تزعجه، ومن هنا لا نستطيع القول إن مصاعبه انتهت. واعتبر بيستون أن مكاسبه هذا الأسبوع تبقى سطحية، وأن الناخبين سيحكمون على إدارته بحسب أدائها في الاقتصاد. ومن المتوقع استمرار الاقتصاد البريطاني على حاله، ومستوى الفائدة والبطالة متدنٍ، عندها سيكون فوز بلير مؤكدا في الانتخابات العامة القادمة.
ويؤكد، نائب رئيس تحرير صحيفة «الفايننشال تايمز» وصاحب كتاب السيرة الذاتية لطوني بلير، فيليبس ستيفن، تحت عنوان «صناعة قائد عالمي»، أن بلير تمتع هذا الأسبوع بفوزين، أمّنا له احتلاله موقع الصدارة في السياسة البريطانية، وأنه أصبح مؤكدا ترؤسه حزب العمال خلال الانتخابات المقبلة، وخصوصا أن المعارضة ضعيفة ومفككة. وبلير سيربح الانتخابات ولكنه لن يكمل مدة ولايته القادمة، لأنه طالما قال في جلساته الخاصة انه لن يجلس فوق سدة الحكم عشر سنوات. ومن المتوقع أن يترك الحكم بعد ولايته الثالثة بسنة أو سنتين على أكثر تحديد.
وأضاف ستيفن، أن بلير لم يعد مهتما بما تقوله الصحف عنه أو بنتائج استطلاعات الرأي وما يهمه هو موقعه في التاريخ.
أما بالنسبة إلى غوردن براون، فإنه يعرف جيدا أن عليه الانتظار للحصول على ميراث الحكم وما يخدم مصلحته هو أن يتمتع الحزب والحكم بشعبية عالية لتحسين فرص حصوله على غالبية برلمانية عالية في الانتخابات المقبلة، ما يخدم مصالحه السياسية ويعزز فترة حكمه
العدد 514 - الأحد 01 فبراير 2004م الموافق 09 ذي الحجة 1424هـ