في زمن الحرب الباردة بين الشرق والغرب كان جسر غلينيكر الذي يربط بين مدينتي برلين وبوتسدام المكان التقليدي الذي يجرى فيه تبادل الجواسيس بين الشرق والغرب. ومن هذا المكان وجد وزير التجارة الإسرائيلي ناتان شارانسكي طريقه إلى «إسرائيل» بعد أن أصر الغرب على أن تفرج موسكو عنه بداعي أنه داعية لحقوق الإنسان. وهو اليوم من أشد المسئولين الإسرائيليين تصلبا تجاه التعامل مع الفلسطينيين أسوة بأبناء جلدته من اليهود الروس واليهود الشرقيين. لكن يوم الخميس الماضي كان مطار بون كولون العسكري المكان الذي جرت فيه عملية تبادل الأسرى بين حزب الله و«إسرائيل».
اعتمدت عملية تبادل الأسرى هذه على مساعدة ألمانية مزدوجة. أولا الاتصالات التي قام بها منذ سنوات منسق شئون المخابرات الألمانية في مقر المستشارية، إرنست أورلاو، وثانيا الخبرة التقنية للتعرف على هوية أصحاب الجثث المهترئة. إن أكبر عملية تبادل أسرى قامت بها «إسرائيل» تمت نتيجة الدبلوماسية السرية الألمانية في «الشرق الأوسط» التي تم الاستعانة بها لأول مرة قبل ثمانية أعوام. في ذلك الوقت تمت أول عملية تبادل للأسرى بين حزب الله و«إسرائيل» تحت رعاية منسق شئون المخابرات الألمانية في مقر المستشارية بيرند شميدباور. وكان رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق اسحق رابين بادر بسؤال المستشار الألماني هيلموت كول في العام 1995 إذا كان بوسع ألمانيا عقد صلات مع حزب الله كي تجري عملية تبادل للأسرى وأقدم شارون لاحقا على خطوة مماثلة وطلب مساعدة حكومة شرودر.
إن رأس مال بداية العلاقة، وضعه شميدباور نتيجة الاتصالات التي عقدها مع مختلف الأطراف في منطقة «الشرق الأوسط» التي بدأها في مطلع التسعينات حين سعى إلى الإفراج عن رهينتين ألمانيتين في لبنان وساعده في الحصول على هدفه اتصالاته القوية مع المخابرات الإيرانية التي بوسع قيادتها السياسية فرض نفوذها على حزب الله. ولقبت الصحافة الألمانية شميدباور بالعميل 008 وقد اهتم هذا بعدم الإفراج عن صورة واحدة للمفاوضات وعمليات تبادل الأسرى. كما لعب رئيس المخابرات الألمانية بي ان دي، أوغوست هانينينغ دورا بارزا وكان عمل سابقا مع شميدباوربوصفه مديرا لأحد أقسام مكتب الجنايات الفيدرالي وقام بدور في عملية تبادل الأسرى الأولى في العام 1996 وساعد في تحقيق عملية جديدة في العام 1999. صباح الخميس الماضي توجه رئيس المخابرات الألمانية إلى بيروت لغرض تنظيم عملية التعرف الجيني على هويات الجنود الإسرائيليين الثلاثة وعلى الرهينة الإسرائيلي الحنان تاننباوم. وقد سهلت الخبرة التقنية خء التي استخدمها خبراء طب ألمان وإسرائيليون معا ثم ترك المجال كي يقوم حاخام إسرائيلي بما يوجبه الدين اليهودي لترتيب دفن الموتى. وقال مسئول أمني ألماني ان عملية تبادل الأسرى تطلبت حساسية فائقة وعناية بالشروط التي تفرضها تقاليد الطرفين لضمان إنجاح العملية. وهكذا ساعدت ألمانيا «إسرائيل» في استعادة رفات جنودها لأن التقليد المتبع عند الإسرائيليين أنهم لا يتركون جنودهم، أحياء أو قتلى، في بلد غريب ويبذلون أقصى جهد لاستعادتهم. في الوقت الذي كان فيه رئيس المخابرات الألمانية في العاصمة اللبنانية كان منسق نشاطات المخابرات الألمانية أورلاو في تل أبيب لمراقبة سير عملية تنفيذ الاتفاق. في وقت واحد بعثت «إسرائيل» طائرة محملة بمعتقلين عرب غير فلسطينيين ومن لبنان أقلعت طائرة متجهة إلى مطار كولون العسكري وعلى متنها نعوش الجنود الإسرائيليين الثلاثة والرهينة تاننباوم. إن نجاح العملية التي تمت يوم الخميس شجعت المسئولين الألمان على المضي بجهود مماثلة لهدف التعرف على مصير الطيار الإسرائيلي رون آراد المفقود منذ العام 1986. منذ تسعة أعوام تساهم ألمانيا في البحث عن الطيار الإسرائيلي الذي سقطت طائرته في أجواء لبنان. يرى الألمان بصيص أمل من خلال مسعى الأمين العام لحزب الله، الشيخ حسن نصرالله ، إلى الحصول على نفوذ سياسي، أن يبادر إلى الموافقة على مفاوضات جديدة فهناك هدف لحزب الله يتمثل في مسعاه للإفراج عن معتقلين لبنانيين في سجون ألمانية وستشترط ألمانيا في هذه الحال الحصول على معلومات عن مصير الطيار الإسرائيلي. بين المعتقلين اللبنانيين الأخوين حماده وثلاثة آخرون ينتمون إلى حزب الله وعميل إيراني قاموا في العام 1992 بالإجهاز على أربعة من قادة الحزب الديمقراطي الكردي في برلين الغربية وحوكموا في العام 1997.
إن الدور الألماني عائد أولا إلى مساهمة ألمانيا في استعادة الاتحاد الأوروبي بعض النفوذ الذي فقده في منطقة «الشرق الأوسط». كما أن مسئوليتها التاريخية تجاه «إسرائيل» التي تقر بها الحكومات كافة التي تتعاقب على السلطة، تجعل ألمانيا أحيانا تضع أيديها في النار من أجل «إسرائيل». لكن ألمانيا تعرف أيضا أن الهولوكوست واضطهاد اليهود في أوروبا ساهم في غزو اليهود فلسطين وإقامة دولة لهم على أرض وحساب الشعب الفلسطيني الذي يعيش اليوم في الشتات وستة آلاف من أبنائه داخل سجون إسرائيلية. لهذا فإن ألمانيا مطالبة بالقيام بواجب يحتمه عليها التاريخ وأن تعمل من أجل الإفراج عن المعتقلين الفلسطينيين ومثل هذه الخطوة قد تؤدي إلى تحريك عملية السلام وإخراجها من الجمود الذي تعاني منه بسبب عناد شارون وانشغال الرئيس بوش صاحب خطة السلام، بحملة انتخابات الرئاسة في الولايات المتحدة إذ لا ينتظر أحد مساهمة أميركية جادة هذا العام
العدد 514 - الأحد 01 فبراير 2004م الموافق 09 ذي الحجة 1424هـ