مشهد تبادل الأسرى في 29 يناير/ كانون الثاني الماضي لا يكتمل إلا بقراءة دلالاته المضادة على المقلب الثاني من الحدود الدولية اللبنانية - الإسرائيلية.

كيف قرأ خصوم ارييل شارون المشهد وكيف تابعه شارون بالذات؟ الرؤية المضادة تعطي فكرة عن عناصر الانقلاب الذي حدث بين العامين 1982 و2004.

خصوم شارون وجدوا في المشهد فرصة للهجوم وانتقاد سلوك رئيس الوزراء الباهت وطريقته الفاشلة في الأداء. شارون وجد في المسألة خطوة اضطر إليها ولم تكن لديه خيارات أخرى سوى تفجير الوضع برمته لإنقاذ ما يمكن إنقاذه وتحمّل كلفة أعلى في مغامرة عسكرية يرجح أنه سيفوز بها لكنه يعرف أنه لن ينتصر بها، فالفوز في معركة لا يعني تحقيق الانتصار في الحرب. فشارون ربح معركة 1982 ولكنه خسر الحرب في مداها السياسي - الجغرافي.

لذلك قرر القبول بما هو معروض حتى لا يغامر في معركة طويلة تنتهي في حرب خاسرة.

بين الهجوم على شارون ودفاع الأخير عن نفسه، ارتسمت خطوط في الطول والعرض تشير الى أجواء سياسية ملبدة بالغيوم. فالانتقادات السلبية والدفاعات الايجابية أشارت الى وجود أغراض أخرى رجحت كفة المساومة والقبول بالخسائر بانتظار فرصة مؤاتية تتيح لـ «إسرائيل» الانتقام والثأر حين تسنح الفرصة.

المقالات الإسرائيلية التي تناولت مشهد تبادل الأسرى قالت أشياء كثيرة منها ما يتعلق بحزب الله ودوره في مستقبل لبنان، ومنها ما يتعلق بموقع لبنان ومكانته في دائرة الصراع العربي - الإسرائيلي، ومنها ما له صلة بالعلاقات الخاصة بين سورية ولبنان ومستقبل تلك العلاقة في ضوء إطلاق سراح الأسرى.

خلاصة المقالات كثيرة والاستنتاجات التي توصلت إليها تجمع بين الوقائع والأمنيات وبين النتائج المباشرة وتصورات ليست بالضرورة دقيقة. ولكن الخلاصة تشير في النهاية الى سلسلة إرباكات وغير متفقة على نتائج واقعية. ومن تلك المقالات ما توصل الى القول إن حزب الله انتهى كفصيل مقاوم وسيتحول بعد تبادل الأسرى الى حزب لبناني يتعاطى الشأن الداخلي ولن يتمتع بذاك الدور المميز الذي رسمه لنفسه انطلاقا من تبنيه بعض القضايا المرتبطة بالموضوع الفلسطيني. وذهبت المقالات الإسرائيلية الى القول إن تبادل الأسرى نزع الذرائع من حزب الله لمواصلة كفاحه ضد «إسرائيل». فالإفراج عن المعتقلين يعني كما ترى تلك المقالات بداية فك ارتباط عن المسار الفلسطيني وتحييد الجبهة اللبنانية عن دائرة الصراع ضد «إسرائيل». وهذا يعني برأي تلك المقالات أن الجانب المقاوم من حزب الله سقط عمليا وبقي جانبه السياسي - المدني وهو موضوع داخلي لا صلة له بالمشكلات العالقة عربيا مع «إسرائيل».

هذه التحليلات (الأمنيات) أضيفت إليها مقالات أخرى ذهبت بعيدا في تفسير عملية تبادل الأسرى وتبريرها أمام الرأي العام الإسرائيلي. ومن تلك الخلاصات استنتاج بعض الأقلام أن اطلاق الأسرى يعني إغلاق الباب اللبناني على الجبهة الشمالية من فلسطين وعزل سورية عن لبنان من خلال الفصل الميداني بين المسارين.

الهدف إذا كما تدعي تلك المقالات هو فك ارتباط المسارين اللبناني - السوري من خلال نزع الذرائع من حزب الله. وتلك الذرائع تتركز على مجموعة نقاط، هي: تطبيق القرار الدولي 425 بكل بنوده وشروطه، إطلاق سراح ما تبقى من أسرى، وأخيرا وهذا هو الأهم الانسحاب الشامل والنهائي من كل الأراضي اللبنانية وتحديدا من مزارع شبعا التي رفضت «إسرائيل» الخروج منها بعد انسحابها الكبير في العام 2000.

هذا الكلام يعني أن تل أبيب تفكر في الانسحاب في الأشهر المقبلة من مزارع شبعا وإطلاق كل الأسرى وتسوية كل المشكلات المتعلقة بالمخطوفين والمفقودين وكل ما له صلة بلبنان حتى تقفل كل الملفات وتنزع كل الذرائع التي يمكن أن تشكل نقطة صراع ضد «إسرائيل» من الباب اللبناني.

إقفال «الباب اللبناني» في هذا المعنى له في كلام المقالات الإسرائيلية سلسلة خطوات تهدف في النهاية الى فك ارتباط لبنان بسورية او على الأقل إلغاء فكرة وحدة المسارين اللبناني والسوري وهي فكرة لها صلة بالقضية الفلسطينية وموضوع الصراع العربي - الإسرائيلي.

المقالات الإسرائيلية إذا تقرأ مسألة إطلاق الأسرى من زاوية محددة تختلف عن تلك التي لها صلة بموضوع تراجع شارون، فالمقالات تشير ضمنا الى مشروعات كبيرة تعتمد على مخططات تريد عزل المسار السوري عن اللبناني وحصر مسألة الصراع على فلسطين، على موضوع الجولان ومطالبة دمشق باستعادة أراضيها المحتلة منذ 5 يونيو/ حزيران 1967.

المشهد إذا من المقلب الإسرائيلي ينفتح على احتمالات مختلفة، فإضافة الى مرارة الهزيمة هناك سلسلة أمنيات تكشف عن أن شارون لم يسقط من تفكيره مخططاته الإجرامية والهجومية في حال اقتضت الضرورة العسكرية ذلك