كما هي الحال في كل عام أعلنت وزارة الإسكان قائمة بأسماء المواطنين الذين استفادوا من مشروعات الإسكان سواء على مستوى الحصول على وحدات سكنية أو قروض بناء.
وطبيعي جدا ألا تستطيع تلك القوائم المعلنة استيعاب كل الطلبات حتى لو كانت الوزارة تعمل بشكل منظم ومخطط لتوفير احتياجات المواطنين السكانية فكيف والحال قد شابه الكثير من الخلل في السابق حتى تراكمت الطلبات وأصبح معدل الانتظار للوحدات السكنية لا يقل عن 10 سنوات. 10 سنوات على الأقل يقضيها المواطن المسكين على قائمة الانتظار صابرا محتسبا يمني نفسه بالحصول على شهادة حسن السيرة والسلوك من خلال الانتظار والترقب فيتقدم كل سنة بخطى بطيئة على سلم القائمة المعلنة ليفاجأ كل عام بمن لم يصطف في هذا الطابور الطويل ولم يتخذ من السلم المعلن طريقا وصل إلى أعلى القائمة إذ توجد مصاعد خفية تقل الآخرين إلى هناك في طرفة عين!!
لاشك ان من أعلى والمع المظاهر الحضارية لأي مجتمع أو دولة هو احترام القانون والثقة من قبل المواطنين بأن الكل سواء أمام القانون الذي يكفل لهم حقوقهم وان لا سبيل لنيل أي استحقاقات خارج القانون أو بعيدا عن روحه وإذا ما كانت هناك حالات يتم التعامل معها خارج هذا القانون أو ذاك فانها تشكل حالات طارئة وملحة تعرض على المواطن ليتفهمها وبالتالي ربما يشارك في دفعها انطلاقا مما يتصف به المواطن البحريني من تعاون وتكافل اجتماعي حباه الله به من خلال هذه البيئة المتميزة التي عاشها ويعيشها الانسان على هذه الأرض الطيبة.
ونحن إذ نقدر لوزير الاشغال والاسكان تأكيده تأصيل القانون وتكافؤ الفرص وكذلك التقادم معايير أساسية في مسألة التوزيع وهذا ما جاء في خطابه الموجه للمجالس البلدية في هذا الخصوص فاننا نحتفظ في ملفاتنا بكثير من الشكاوى المتعلقة بالتوزيع وخصوصا فيما يتعلق بحالات الفقر المذقع وظروف السكن البائسة التي لا تتناسب ابدا مع بني البشر ما يطرح سؤالا عن المعايير الحقيقية التي يؤخذ بها في مسألة التوزيع.
فمما لاشك فيه ان مشروعات الاسكان هدفها الاساسي هو المواطن المحتاج الذي تنطبق عليه الشروط التي نص عليها القانون ولكن مع كل أسف ومن خلال ما نرى ونسمع لا نرى لموضوع الحاجة وبالتالي الحاجة الملحة ذلك الوزن الذي يرجح الاستحقاق ما يفتح الباب لسيل من الأسئلة والتشكيكات والتأويلات التي اعتقد ان الوزارة الموقرة في غنى عنها.
وخصوصا أن هذه الأسئلة لها ما يبررها إذا ما تفحصنا قوائم (المستحقين) التي تزخر بأسماء وطلبات جديدة لا تشكل حالات ملحة وبذلك فهي ليست بحاجة إلى دعم او مساعدة على حساب الأعداد المتزايدة من الفقراء والمحتاجين الحقيقيين.
إذ لا اعتقد ان باستطاعتنا إقناع طرف مراقب بان تلك الفلل الضخمة المترامية المساحات والتي تربض على المواقع المتميزة لكي تترفع عن مستوى وحدات الاسكان العادية هي لأناس محتاجين انتظروا كثيرا قروض الاسكان لكي يستروا على عوائلهم ببناء يحميهم من الحر والبرد، هؤلاء الذين يحاسبون ألف مرة حتى لا يأخذوا فرصة مواطن مسكين يعيش في فقر مذقع ولذلك فانهم لم يترددوا حين عرضت عليهم الايجارات المرتفعة لتلك الفلل فأجروها وآثروا ان يعيشوا في بيوتهم الاصلية تضامنا مع السواد الاعظم من الشعب!!
ويجب ألا يفهم احد اننا في صدد انكار حق أي مواطن في الاستفادة من مشروعات الاسكان او المشروعات الحكومية الأخرى، الا اننا نؤكد مبدأ الحاجة أولا، فإغفال الحاجة معيارا في تحديد الاولوية يفقد هذا النوع من المشروعات الكثيرة قيمتها بل ربما تتحول إلى سبب من الاسباب الكثيرة التي تؤصل الغبن والشعور بالاهمال لشريحة كبيرة من المواطنين لا يمكن ان يتحقق الأمن الاجتماعي من دون الاهتمام بها وجعل توفير احتياجاتها على قائمة سلم الأولويات.
اننا بحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى اظهار أكبر قدر من الشفافية والموضوعية وتوحيد المعايير لكل المستفيدين لكي نطوي صفحات كثيرة ونتجاوز واقعا مريرا مطالبين جميعا كل في موقعه، بتجاوزه من خلال تأكيد دولة المؤسسات والقوانين ولاشك ان ذلك يتطلب منا الكثير من الجهد لتحريك المياه الراكدة وازاحة الكثير من العصي التي وضعت في عجلة مسيرة الاصلاح، إنها مهمة صعبة ولكنها ستسهل كثيرا مع تضافر الجهود وهمم الرجال المخلصين وهم الأكثر في مملكتنا الغالية.
من جانب آخر إن محدودية الرقعة الجغرافية للمملكة ومحدودية المواقع الخاصة لمشروعات الاسكان تصطدم بحقيقة باتت واضحة تتمثل في رغبة المواطنين في البقاء في اماكنهم او اماكن قريبة من سكنهم وهذا توجه رصده ولي العهد رئيس لجنة الاسكان والاعمار سمو الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة ويؤكده مرارا من خلال توجيهاته لسياسة الاسكان المستقبلية، ولكن ماذا عن مشروعات الاسكان الحالية!!
اعتقد أن من حق أي مواطن ان يتطلع إلى سكن قريب من سكنه او سكن عائلته وعشيرته ولكن هل يتحمل الواقع وقوائم الانتظار الطويلة التي اصطفت عليها أسماء المواطنين من مختلف مناطق البحرين، ان نحصر الاستفادة والاستحقاق للمشروعات الاسكانية التي أقامتها وزارة الاسكان في منطقة ما في المملكة في المتقدمين من اهالي تلك المنطقة فقط بغض النظر عن تاريخ الطلبات المقدمة وسنوات الانتظار للمواطنين الذين لا ينتمون لهذه المنطقة أو تلك؟!
ثم ما ذنب المواطنين الذين لا توجد مواقع خاصة للمشروعات الاسكانية في مناطقهم؟! وما مصيرهم؟ أليس لهم الحق في ان يحلموا بسكن قريب من مناطقهم وأهلهم وما داموا انتظروا اكثر من 10 سنوات للحصول على وحدة سكنية فكم نريد لهم ان ينتظروا اكثر... إلى حين الحصول على مواقع لتشيد مشروعات اسكانية عليها؟!
من جهة أخرى لماذا يبعد المواطن الذي يسكن الحد أو عراد إلى الدوار الثاني والعشرين في مدينة حمد ونطلب منه القبول بالبيت او فوات الفرصة في حين ان الآخرين احق بالمشروعات التي شاءت الاقدار أن تكون قريبة من سكنهم.
انه من الخطأ ان تدغدغ هذه العواطف بمثل هذه الوعود التي لاشك انها ستترتب عليها كثير من المشكلات والحساسيات بين المواطنين في المناطق المختلفة، إذ إن خطة إسكان المواطنين بالقرب من مواقع سكنهم الاصلية يشكل مشروعا طموحا محمودا ولكن ذلك يجب ان يكون ضمن رؤية متكاملة تشمل جميع مناطق البحرين.
انها خطة تحتاج الى الكثير من الدراسات الفنية المتخصصة للمواقع المختلفة وكذلك لرصد موازنة كافية لاستملاك الكثير من الاراضي الخاصة التي تحيط بالمناطق السكنية الحالية وهذا لايتم إلا ضمن مشروع وطني واضح المعالم ينفذ على مدى زمني مواقعي ليحقق أحلام كل ابناء المملكة.
وهذا ما جعل توجه لجنة الاسكان والاعمار برئاسة سمو ولي العهد ان تطلب من المسئولين المعنيين تقديم دراسة مواقع مختلفة تتوزع حول المملكة لتشييد المدن الاسكانية الجديدة، إذ تحرص اللجنة وعلى رأسها سمو ولي العهد على تقوية الأواصر العائلية والاجتماعية لأهالي المناطق المختلفة وتعزيز النسيج الاجتماعي والثقافي لتلك التجمعات السكانية التاريخية.
ولكن هذا مشروع مستقبلي لاشك انه سينال ما يستحق من دراسة وتخطيط، الا ان موضوع المشروعات الاسكانية التي تقام على جيوب هنا أو هناك، لا تحتمل إخضاعها لهذه المعايير أو الفلسفة وإلا فإن مشروعات الاسكان ستتحول الى حق مطلق لأبناء المناطق التي تقام عليها وتكون حصرا لهم دون الالتفات الى الحاجة وأقدمية الطلبات وهذا منهج مخالف للسياسة الاسكانية التي قبلها وتعامل معها المواطنون باختلاف انتماءاتهم الجغرافية والمناطقية ولا يجوز ان ننسف هذه السياسة المتعارف عليها تحت ضغط هذا الطرف او ذاك والا سيفتح الباب على مصراعيه لاختطاف هذه المشروعات تحت مسميات ودعاوى مختلفة قد يكون المعيار فيها كل شيء الا القانون نفسه.
وهنا يمكن أن يعمل المجلس البلدي، بصفته مجلسا منتخبا من المواطنين وقريبا منهم ومطلعا على أوضاعهم وهمومهم. يمكن أن يعمل مع وزارة الاسكان على تحديد الأولويات ودراسة الحالات المختلفة للمتقدمين وبالتالي تحديد الأولويات في التوزيع إذ سيساهم ذلك في تخفيف الضغط النفسي عن كاهل الوزارة ووقف ما يثار من اتهامات بالمحاباة والمحسوبيات والواسطات والتجاوزات، هذا من جهة ومن جهة أخرى يفعل الدور الحيوي للمجالس البلدية ويجعلها ذات شأن في موضوع مهم يلامس حياة كل مواطن ويعتبر من أولويات همومه اليومية. انه دور يمكن للمجالس البلدية القيام به على أكمل وجه وفي الوقت نفسه سيقوى الإحساس عند المواطن بأهمية ودور هذه المجالس المنتخبة وبالتالي سيعمل على دعمها والتفاعل معها بشكل أفضل ما يساهم في إنجاح التجربة الوليدة.
وأخيرا أتمنى أن تتفهم جميع الأطراف المعنية هذه الملاحظات التي أريد منها الدعوة إلى دراسة الموضوع بصورة شاملة تأخذ في الاعتبار كل القضايا الآنية منها والمستقبلية المتعلقة بموضوع الاسكان والعلاقات الاجتماعية بعيدا عن النظرة الشخصية أو المناطقية الضيقة
إقرأ أيضا لـ "مجيد السيد علي"العدد 485 - السبت 03 يناير 2004م الموافق 10 ذي القعدة 1424هـ