ركدت مشروعات التسوية في فلسطين كركام تحته نار مشتعلة. أخفق اجتماع القاهرة وأخفقت زيارة وزير الخارجيّة المصري أحمد ماهر لفلسطين ودولة الكيان الصهيوني ولم تؤدِ زيارة الموفد الأميركي إلى شيء، واستمرت عمليات العدوان على الشّعب الفلسطيني من الاغتيالات إلى اجتياح المدن والمخيّمات، وعمليّات بناء الجدار العنصري ومنع عرفات الذي لا يزال تحت الحصار من رعاية احتفالات عيد الميلاد، وتمكنت قوات المقاومة من الرد بعمليات داخل الخط الأخضر، وكشف وزير الأمن الصهيوني عن تهافت خطّته العسكريّة، وتزايد تذمّر جنوده علامة على انخفاض المعنويات والاعتراض على مشروعات القتل الجماعي لشعبٍ لا تلين إرادته في طلب الحريّة والتحرير، وخطفت عمليّات اعتقال صدّام حسين أضواء الإعلام العالمي، مضافة إلى هستيريا الحرب على الإرهاب، وكوميديا التخلص من أسلحة الدمار الشامل. ومالت كفة أخرى على كفة «السلام»، وانقلبت الصورة في بضعة أيام على نفسها انقلابا صامتا، كمشهدٍ راكدٍ تشتعل تحته النّار، لكن إلى أين؟
في البدء ليس من قبيل المصادفة أن يحصل ما حصل، ولا من قبيل المفاجآت. إن تبادل الأدوار بين هبّةٍ باردةٍ لمشروعات التسويات وبين هبّةٍ ساخنةٍ للحرب المعلنة على أرض فلسطين ناتج عن طبيعة الصراع نفسه وليس دخيلا عليه، وإذا كان الصراع في فلسطين يمثل تأوج المشهد السياسي في المنطقة العربيّة والإسلاميّة، فإنّ ما يحصل في فلسطين يقدّم الصورة المضافة إلى هذا المشهد العام، الذي يتقلَّب بدوره بين حالة الحرب و«السلام».
إن معنى العطف بين الحرب والسّلام يغلب حالة الحرب ويجعل من الحرب الطرف المهيمن في المعادلة، حتى يمكن توصيفها كحربٍ ذات طبيعةٍ خاصة، تستمد وجودها من إضافة وهمية تكون فيها هي الجوهر الحقيقي، فيها مشروعات التسوية التي يصفونها بـ «السلام» هي العرض الزائل، حتى لو تنقل هذا العرض بين كل المقولات الأرسطية الشهيرة. وإذا ما طبقنا مقولة الجوهر والأعراض المتلاحقة عليه، على الوضع السياسي في منطقتنا، وصلنا إلى الفارق الذي يمّيز السياسة العربيّة والإسلاميّة الراهنة، عن السياسة الأميركية وتابعتها سياسيّة الكيان الصهيوني المرتبطة بها أشدّ الارتباط.
كيف يظهر هذا الفارق في المشهد السياسي الرّاهن؟
منذ ظهور الولايات المتحدة الأميركية كقوة عالمية عظمى، ثبتت سياستها على فرض الحلول السياسية بالحرب، حصل ذلك في فترات تاريخيّة مشهورة منذ الحرب العالميّة الثّانية التي توّجت أميركا مواجهاتها باستخدام السّلاح النووي ضدّ اليابان وأرفقت نشوء الأمم المتّحدة بتشكيل القوّة العسكريّة المشتركة للحلّف الأطلسي ونشر قوّاتها في أنحاء أوروبا الخارجة مثخنة بجروح الحرب، وأدارت الحرب الباردة بسياسة الحروب الساخنة المتنقلة في أرجاء القارات. ثم توّجت صراعها «بحرب النجوم» وشجّعت سباق التسلُّح وروجّت قوانين التدخل العسكري الخارجي، وقدّمت الدعم الكامل إلى الاستعمار الاستيطاني في فلسطين وساعدت دولة الاحتلال على شنّ الحروب الموسميّة وساعدتها في بناء ترساناتها العسكريّة التقليديّة والنوويّة، وحجبت عنها قرارات الإدانة الدوليّة في الأمم المتّحدة ومجلس الأمن، وأعطتها المساعدات الماليّة والعينيّة ووظفت لها وسائل الإعلام الكبرى القادرة على صناعة الرأيّ العام الدولي وتعاملت مع العرب والمسلمين كعدوٍّ محتمل يجب إضعاف شوكته بنهب ثرواته وتشجيع صراعاته الداخليّة ومحاربة دينه وتراثه ومساعدة الأنظمة ذات الطابع الاستبدادي على الشعوب وتقليب الأنظمة على الأنظمة ومنع حركات الاحتجاج والمعارضة ومنع النمو والعمران ومصادرة الحريّة وتشجيع الاستلاب والتبعيّة... فأي وصفٍ تستحقه هذه الحال سوى وصف الحرب. إن «السلام» عند الولايات المتحدة الأميركية قائم على قاعدة الحرب، مفروض باسمها، حاصل كنتيجة لها، مفصح عن موازين القوى التي تحققت من خلالها. إنها الحرب إذن ولا معنى لإضافة «السلام» إليها إلاّ كمقولة عارضة.
بعد حوادث 11 سبتمبر/أيلول انتقل الموقف الأميركي من حال الحرب المتنقلة والمضمرة إلى حال الحرب المعلنة والصريحة، بحجة مكافحة «الإرهاب الدولي»، وهي غير بريئة من صناعته والترويج له على الإطلاق. وانتقل معها - بعد التطورات الدولية نهاية القرن الماضي - اعتبار الحرب مع العرب والمسلمين من حال محتملة إلى حال مباشرة وراهنة، تمثلت في ظاهرة «عولمة الحرب من ناحية» إلى تموضعها في منطقتنا، عبرالوجود العسكري الأميركي المباشر، ليس كقواعد عسكرية وحسب، بل كجيوش مقاتلة عند قيادتها، قرار عمليات دائم من ناحية ثانية.
إن مشروعات التسوية تبدو في هذه الحال كمشهدٍ شاذٍ في فيلم أميركي عسكري طويل، من يصدّقه يكون من ضحاياه، ومن يكشف عن سخريته يكون في مقام من يبحث عن الخروج من مأزق صعب.
نذهب إلى القول إن الموقف «الإسرائيلي» المبني أساسا على جوهر العدوان، يتصف بالتبعية المتناغمة للسياسة الأميركية ويخضع في جانب كبير منه لأولوياتها مع توظيف كل العناصر المتوافرة لجعله في سلّم هذه الأولويات. فإذا ذهب الموقف الأميركي لإعطاء الأولوية بما يسمى الحرب على الإرهاب أدرج نفسه في نطاقها لأنه لا قوّة فعلية له خارج القوة الأميركية. فإذا مالت أولويات السياسة الأميركية إلى إشعال الصراع في فلسطين لتسويات خادعة لصالح الصراع في العراق على سبيل المثال، استجاب لها، وأظهر نفسه في موقف صديق أميركا المحرج ولكن إلى حين، واصطنع لنفسه دورا في تسلم أولوياتها وفي خلده أنه يفعل ذلك على سبيل الراهن المؤقّت المتهيئ لقطف الوجود الأميركي العسكري المباشر في المنطقة واندراجه في تحالف السياسة الأميركية وخطتها العامة.
ولذلك ذكرنا أكثر من مرة أن قراءة «مشروعات التسوية» المتعددة لا تستقيم إلاّ في نطاق الرؤية الكلّية للسياسة الأميركية والعالميّة الراهنة، وإلاّ تحوّلت هذه القراءات إلى رؤية ضيقة لا تذهب أبعد من أنف صاحبها.
هل تندرج السياسة العربيّة والإسلاميّة بشأن ما يجري في فلسطين والعراق في نطاق هذه القراءة الضّيقة؟
جواب هذا السؤال في دراسة نقديّة للسياسة العربيّة في فلسطين والعراق، وفي المشهد السياسي العالمي الراهن. ولابد له من مهاد نظري يغلب القراءة الشاملة لرابط العطف الملتبس بين ما ندعوه لعبة الحرب و«السلام» وللبحث صلة
العدد 484 - الجمعة 02 يناير 2004م الموافق 09 ذي القعدة 1424هـ