العدد 483 - الخميس 01 يناير 2004م الموافق 08 ذي القعدة 1424هـ

الانقسامات الأخيرة

فرق المعتزلة

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

لا يعرف من توفي قبل الآخر الجبّائي (الاب) أم الخياط الا ان المؤكد ان المعتزلة في عصرهما دخلت بدايات نهايتها الايديولوجية. فبعدهما ستصبح المعتزلة مجرد فرقة تراقب الزمن وتحولاته وتكتب عن تاريخ فرقها أو ما يعرف بطبقات المعتزلة، واشتهر في هذا الحقل كتاب البلخي (الكعبي) الذي تتلمذ على يد شيخه الخياط ودافع عنه ضد الجبّائي (الابن). فالكعبي في كتابه اختصر افكار شيوخ المعتزلة وخلافاتهم وبررها واوضحها ثم وضع لنفسه قواعد مستقلة في التفكير.

ليس المهم من مات قبل الآخر فهناك من يقول ان الجبّائي (الاب) توفي في سنة 295 هجرية وهناك من يؤخر وفاته الى 303 هـ (915م). والخياط هناك من يقول انه توفي سنة 290 هجرية وهناك من يؤخر وفاته إلى 300 هجرية (912م) الا ان الاساس في الخلاف ليس على وفاتهما بل على بداية رحيل المعتزلة نفسها. ففي ذاك الوقت كانت الخلافة تعيش عصرا جديدا بدأ مع ولاية المقتدر في سنة 295هـ ودام 25 سنة الى العام 320 هجرية. وهي ولاية طويلة بدأت مضطربة إلى أن استقرت على توازن زئبقي للسلطة.

ففي أول عهد المقتدر نشب الصراع مجددا على السلطة مع عبدالله بن المعتز. وانتهى الصراع بهرب ابن المعتز في سنة 296هـ (908م) و«وقع النهب والقتل في بغداد» إلى ان «استقام الامر للمقتدر» وسلم الخليفة (الصغير السن) مقاليد الحكم الى الوزير ابن الفرات «فسار أحسن السير، وكشف المظالم». (السيوطي، ص 378 - 379).

في مطلع عهد المقتدر كان الخلاف انفجر بين فرق المعتزلة وتبعثرت الى اجزاء متناثرة بين البصرة وبغداد وبين الجبّائي (الاب) والامام الاشعري من جهة والجبّائي (الاب) والخياط من جهة اخرى. وهو خلاف توارثه التلامذة فدافع الابن عن الاب على رغم اختلافه معه، ودافع المريد الكعبي عن شيخه الخياط الى ان قضي على المعتزلة كقوة ايديولوجية نجحت في الاستمرار على رغم انهيار موقعها السياسي في الخلافة.

هذه النتيجة لم تأت من دون اسباب ومقدمات. فالمعتزلة بعد رحيل شيوخها المخضرمين دخلت في سباق مع الوقت حين اكتشفت فرقها انها فقدت وظيفتها ومبررات وجودها.

إلى ذلك انفجر الخلاف على الرئاسة بين معتزلة بغداد ومعتزلة البصرة. فالجبّائي (الاب) كان من البصرة ولد في بلدة جبي (من خوزستان) ويقال ان جده الاعلى وهو خالد بن حمران بن أبان كان مولى الخليفة الثالث عثمان بن عفان (رضي). وبسبب مكانته تلك اهوى الجبّائي، كما يقول البغدادي، اهل خوزستان ودفعهم الى تأييد «مذهبه» ثم انتقلت إلى مذهب ابي هاشم (الجبّائي الابن) بعد رحيله.

يتفق كل كتاب الملل والنحل والفرق على سعة علوم الجبّائي ويقول عنه الملطي (ابوالحسين) انه ترك 40 ألف ورقة في الكلام وتفسيره يقع في مئة جزء. ويتفق ايضا ابن النديم والاشعري والبغدادي والشهرستاني والجرجاني والفخري على ان الجبّائي وابنه هاشم «وافقا اهل السنة في الامامة، وانها بالاختيار، وان الصحابة مترتبون في الفضل ترتبهم في الامامة». (الملل والنحل، الجزء الأول، ص 84). والمعتزلة عموما كما يقول الشهرستاني «جوزوا الإمامة في غير قريش، إلا انهم لا يجوزون تقديم النبطي على القرشي» (ص 91).

مسألة الامامة كانت نقطة خلاف كبيرة بين معتزلة البصرة ومعتزلة بغداد فالاولى اميل الى الاختيار والثانية اميل الى التخصيص. وهذه المسألة فتحت باب الصراع بين شيوخ المعتزلة وادت إلى انهاك فرقها في صراعات سياسية انتقلت لاحقا إلى التشكيك في الاسس الايديولوجية التي انطلقت منها. والمهم على مستوى الايديولوجيا ان فرقة الجبّائي (الاب) انفردت بالقول انه يجب على الله ان يريح العباد من كل ما أمرهم به، وانه لا يحل للشهيد ان يتمنى الشهادة ولا يريدها. ونفي صفات الله السبع، وعلمه باكثر المعلومات، والقدر السابق واللاحق. (الفخري، تلخيص البيان، ص 85). وينقل الجرجاني عنه ايضا انه قال ان «الله متكلم بكلام مركب من حروف واصوات يخلقه الله تعالى في جسم، ولا يرى الله تعالى في الآخرة، والعبد خالق لفعله، ومرتكب الكبيرة لا مؤمن ولا كافر، واذا مات بلا توبة يخلد في النار، ولا كرامات للأولياء». (التعريفات، ص 100).

ويقول البغدادي في كتابه (الفرق بين الفرق) ان أساس خلاف الجبّائي (الاب) مع الاشعري (تلميذه) كان على معنى الطاعة اذ سمي الجبّائي الله مطيعا لعبده اذا فعل مرادا به. (ص 167 - 169).

بدأت المشكلة اذا مع الاشعري وانشق الأخير ليفضح مقالات المعتزلة. ثم انتقلت المشكلة الى خلاف مع الخياط (استاذ الكعبي). فالخياط انفرد بقوله في المعدوم. والمعتزلة عموما اختلفوا في تسمية المعدوم شيئا. فمنهم من وافق أهل السنة في المنع من تسمية المعدوم شيئا. بينما قال الخياط وتلميذه الكعبي ان المعدوم «شيء ومعلوم ومذكور وليس بجوهر او عرض». وعارض الجبّائي (الاب والابن) وصف المعدوم بشيء اذ لا يجوز «وصف معدوم بما يوجب قيام معنى به». ورد الجبّائي على الخياط في مسألته «لان ذلك يؤدي إلى القول بقدم الاجسام». وازداد الخلاف بين الجبّائي والخياط حين انكر الاخير الحجة «في اخبار الآحاد» الامر الذي دفعه إلى انكار اكثر احكام الفقه. (البغدادي، ص 163 - 165).

هناك خلافات كثيرة وتدخل في تفصيلات ومتاهات لا حصر لها وهي في معظمها تافهة ومملة واحيانا تعكس صراعات عصبية ومناطقية لا صلة لها بالدين او الفقه. فالكعبي (تلميذ الخياط) خالف البصريين من المعتزلة في اقوال واحوال كثيرة؛ لان الكعبي والخياط كما يقول الشهرستاني «من معتزلة بغداد على مذهب واحد» (الملل والنحل، ص77). والجبّائي (الاب) حين نقض على الخياط قوله إن الجسم جسم قبل حدوثه كان يرد عليه دفاعا عن زعامته للمعتزلة لان الخياط حين فارق المعتزلة في باب «المعدومية» وان المعدوم شيء وجدها فرصة له لعزله عن باقي الفرق التي لا تقول قوله. كذلك الابن خالف والده الجبّائي في امور كثيرة لها علاقة بالصفات والاحوال وانفرد عن والده في الكثير من المواقع والاقوال الى درجة ان ما تبقى من فرق المعتزلة كفرته في ثلاثة مواضع وهي قوله عن استحقاق العقاب لا على فعل، واستحقاق العقاب على قسطين من العذاب، وكذلك عن الطاعة والفعل وغيرها من اشياء (الشهرستاني، ص 80).

هذه الخلافات ليست مهمة فهي في النهاية بين فرق المعتزلة ولم تخرج عن اطارها. وخلافات الجبّائي الاب مع الابن او خلافه مع الخياط والكعبي (البلخي) ليست جديدة في تاريخ المعتزلة التي اشتهرت بكثرة الكلام والانقسام وتناسل الفرق وانشقاق المريد عن الشيخ. الجديد في انقسامات المعتزلة الاخيرة انها جاءت في وقت اخذت الخلافة تستعيد هيبتها وبدأ مركز الدولة يشهد عموما حركة تنوير اسلامية في وقت كانت اطراف الدولة تتمرد وتستقل.

هذه الانقسامات ليست جديدة وغير مهمة. المسألة الحاسمة فيها هو ذاك الخلاف الذي وقع بين الجبّائي (الاب) وتلميذه الاشعري وتحول من اختلاف عادي على مسألة الى انقسام كبير أسهم في تسريع نهايات المعتزلة وتأسيس منهج كلامي كان له تأثيره العام على أهل السنة والسلف. فالاشعري لم يختلف مع الجبّائي على نقاط لاتزال تتحرك ضمن دائرة المعتزلة بل على سلسلة مسائل خرجت من دائرتها لتخرج لاحقا المعتزلة من حلبة الصراع لتبدأ رحلة بدايات نهايتها

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 483 - الخميس 01 يناير 2004م الموافق 08 ذي القعدة 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً