ستبدو الأمور على غير طبيعتها إن انتزعت نفسك من عمل مهم، وذهبت لتعاقب نفسك بحضور «أمسية استثنائية» لكل من أدونيس، وهو أشهر من أن يتم كيل عبارات التنميق الزائدة على دوره في الثقافة العربية المعاصرة، إن كنا مختلفين مع طرحه أو متفقين، وكذلك عازف العود الأنيق نصير شمة.
التجارب السابقة التي جمعت جمهور البحرين، وعدد من أهل الخليج الذين لا تعني لهم المسافات شيئا في مقابل حضورهم لأحد الرجلين بينت أن حضور أحدهما يعد حدثا قائما لذاته، وهذا ما جرى آخر مرة من قبل في العام 2000، فكيف بهما يجتمعان معا في أمسية تتلاقى فيها الكلمات بالأوتار، بنغمات من حنجرة فلسطينية وأخرى مصرية، تشكل في نسيجها حضورا ألِقا! أن تعاقب نفسك بالحضور يعني أن يكون الجمهور (حرام علينا أن نقول كلهم) فاعلا ومتفاعلا بالقدر الذي يجري فعله على المنصة البسيطة التي نصبت في بهو متحف البحرين الوطني، وأحاطت بها كراسٍ تعدت المئة.
«الدليل الكامل» لكي تفسد على نفسك حضور ليلة كهذه، يبدأ بأن تأتي متأخرا بعض الشيء، لأنك ستنال كراسٍ في الصفوف الخلفية، وهي الصفوف التي عهدناها مذ كنا في «صفوف» المدرسة، لا تستقبل إلا الفوضويين، ومثيري المشكلات.
وحتى إن حضرت مبكرا، فهناك قامات رسمية ووجاهية لابد وأن تتصدر الجمع، فعليك أن تزن نفسك جيدا لتعلم إلى أي الطبقات تنتمي، فتتراجع صفا بعد صف، بعد صف، حتى تجد نفسك في المكان الذي قررت من البداية أن تهرب منه.
في الصفوف الخلفية، امرأة تحاول أن تشرح لطفلتها أهمية أن تصمت لدى بدء الأمسية، وتلح الطفلة الصغيرة التي لا تطيق الجلوس هادئة، على التجوال، وتناديها أمها بهمس أشبه بالفحيح «لا تحدثي صوتا» فيكون لهمسها أثر أكبر من الكلام المباشر نفسه.
هاتف يرن، يستحي صاحبه أن يمد يده أمام الجمهور المتلفت اشمئزازا ليطفئه، فيتركه هكذا يرن ويرن... لا تنقضي دقيقة واحدة حتى يجيبه هاتف آخر من ركن قصي، لم يتذكر صاحبه أن يطفئه.
آخر يجيب صاحبه الذي اتصل والأمسية تحتاج إلى صمت مطبق حتى تصل أحاسيس الفاعلين فيها إلى الجمهور، يحاول الحاضر أن يخفض صوته، ولكنه في غمرة الحديث ينسى نفسه، فتحرقه النظرات الساخطة.
ذات صباح سألت شمة قبل أن يبدأ العرض «هل أطلب من الجمهور إغلاق هواتفهم؟»، فرد قائلا: «الهواتف ليست مشكلة، الآن لدينا مشكلة المسابيح»، فالبعض لا يحلو له التركيز إلا بلف مسبحته أكانت كهرمان أم حجرا كريما آخر، أم حتى حجرا وضيعا فتصدر طقطقات خفيفة، ولكنهم تكفي لتشويش تركيز العازف، هل تزعجك الطقطقات الخفيفة يا نصير؟! يتزايد العدد في الصالة، يضطر موظفو الثقافة أن يوفروا كراسي إضافية لضيوفهم، عيب أن يبقى الضيف واقفا، يستجلب العمال الكراسي، وتسمع اصطكاكها بأرضية القاعة، والفعالية مستمرة... أحدهم يريد أن يقترب من صاحبه أكثر... تلك تريد أن تبتعد عن شبهة ملامسة كتف رجل أجنبي، فتحرك كرسيها، ويحركه ذاك أيضا، المعدن والرخام إن احتكا يصدران أنغاما لا هارمونية إطلاقا مع أوتار نصير شمة، ولا مع أوتار حنجرة أدونيس.
تأتي المخمليات، وورائهن المخمليون، يتم تدبير أماكن لائقة لهم جميعا، يتحرك هذا هنا وذاك هناك حتى لا يجلسوا مع الدهماء والرعاع، يتراكض العمال حاملين على رؤوسهم كراسي إضافية مخترقين الصفوف، والأمسية مستمرة.
يضج الواقفون في الصفوف الخلفية من آلام مفاصلهم، فيتحركون، تستطيع حينها أن تميز جيدا بين نغمة «سي» على العود، وصرير جلد أحذية الرائحين والغادين على الرخام الأملس.
موظفون في وزارة الإعلام، تقع على عاتقهم قدسية حفظ النظام في الصالة وإظهارها على أروع صورة، بدءا من أنفسهم، ينتحون جانبا ويتبادلون أحاديث وضحكات يتصنعون كتمانها، والأمسية مستمرة.
حينها تكون كل العناصر الاستثنائية قد اكتملت لإفساد «أمسية استثنائية»، لا ينقصها سوى من يطوف بين صفوف الجالسين مناديا ببيع «حب الفساد»، للزوم اكتمال التسلية.
إن استطعت بعدها أن تجلس لاستكمال البرنامج تكون جبارا، إذ عليك حينها أن تنسحب أسفا وخجلا، أو أن تشارك كرنفال العرض من خارج المنصة
إقرأ أيضا لـ "غسان الشهابي"العدد 482 - الأربعاء 31 ديسمبر 2003م الموافق 07 ذي القعدة 1424هـ