العدد 2688 - الخميس 14 يناير 2010م الموافق 28 محرم 1431هـ

مفهوم الحداثة ودلالتها... (1)

إبراهيم الحيدري - باحث عراقي ... نقلا عن موقع «إيلاف» 

14 يناير 2010

يحتل مفهوم الحداثة «Modernity» في الفكر المعاصر مكانا بارزا، فهو يشير بوجه عام الى سيرورة الاشياء بعد ان كان يشير الى جوهرها، ويفرض صورة جديدة للانسان والعقل والهوية، تتناقض جذريا مع ما كان سائدا في القرون الوسطى.

وعلى رغم اهمية هذا المفهوم وشيوعه في الفكر المعاصر، الا انه اكثر التباسا وتعقيدا لما ينطوي عليه من غموض وارتبارطه بحقول معرفية كثيرة واستخدامه في مجالات مختلفة وتوازي معناه مع مسيرة الحضارة الغربية الحديثة، التي افرزت اشكاليات رافقت الحداثة وما بعدها، وكذلك تعدد ابعاده ومدلولاته وشموليته لمستويات من الوجود الانساني، العلمية والتقنية والاقتصادية والسياسية والادبية والفنية والفلسفية والتداخل فيما بينها.

والحداثة هي نقيض القديم والتقليدي. فهي ليست مذهبا سياسيا أو تربويا أو نظاما ثقافيا واجتماعيا فحسب، بل هي حركة نهوض وتطوير وابداع هدفها تغيير انماط التفكير والعمل والسلوك، وهي حركة تنويرية عقلانية مستمرة هدفها تبديل النظرة الجامدة الى الاشياء والكون والحياة الى نظرة اكثر تفاؤلا وحيوية.

واذا كانت الحداثة بنية فكرية جامعة لعدد كبير من المعاني والسمات والمبادئ الحضارية المشتركة التي تشمل الوجود الانساني، فإن التحديث «Modernization» له مدلول تاريخي لا يشير الى السمات الحضارية المشتركة، وانما الى دينامية التحولات البنيوية ومستوياتها. فابتداء من القرن السادس عشر حدثت في اوروبا تحولات بنيوية وحركات اجتماعية واقتصادية ودينية وسياسية اجتاحت اوروبا، رافقتها استكشافات جغرافية وفتوحات استعمارية، وفي الوقت ذاته، ثورة علمية تقنية رافقت الثورة الصناعية، التي فجرت في نهاية القرن التاسع عشر الثورة الفرنسية والثورة القومية - البرجوازية في اوروبا.

ان هذه التحولات البنيوية التي تداخلت بعضها مع البعض الآخر، في حركة جدلية كانت تصب في مجرى واحد هو مسار الحداثة.

منهجيا، ليس من السهل اخضاع الحداثة الى القياس، لأنها لا تكشف عن نفسها في موضوعات محددة وملموسة ويمكن قياسها واخضاعها للتجربة، وعلى المرء ان يستقرئ أسس الحداثة ومقوماتها بوصفها عمليات تراكمية وتحولات بنيوية مادية ومعنوية.

وبإيجاز شديد يمكننا فهم الحداثة باعتبارها المعطى الدوري والتحول المتسلسل في بنيات الانتاج والمعرفة والثقافة والاستطاعة التقنية والتي تمثلت بثلاثة تحولات كبرى هيأت لقيامها وهي:

أولا: تقوم على سلوك ذي نزعة انتاجية واسعة تتخطى الحدود التقليدية لمنظومة العمل والانتاج القديمة. وبهذا فهي مرادفة للرأسمالية، كنظام اقتصادي وبيروقراطي رشيد للمشروع الاقتصادي الحر الذي يقوم على تقسيم العمل الاجتماعي والتخصص.

وثانيا: تقوم على تقدم علمي - تقني مستمر ظهر في العلم التجريبي والطباعة والتعليم والاعلام والاتصال وغيرها.

وثالثا: نهضة فكرية واجتماعية - سياسية في دوائر المجتمع والفرد، أدت الى الاعتراف بقدرات الانسان الذهنية وحددت حقوقه وواجباته.

وباختصار، فالحداثة تعني مجمل التفاعلات التراكمية التي يدعم بعضها البعض، وان هذه التغيرات الحاسمة ذات الوتائر السريعة انتجت طفرة حقيقية في التطور الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، تطورت بموجبها قوى العلم والتقنية والانتاج تطورا واسعا بحيث أحدثت قطيعة بين الانسان وماضيه وجعلت منه سيد الطبيعة ومالكها عن طريق ضبط علمي - عقلاني لأفعاله. ولكن منذ مطلع القرن الماضي بوجه خاص تحولت العلاقة بين العلم والتقنية لتصبح التقنية «العلم المطبق « كما اصبحت الآلة، بل وسيطرتها هي السمة الابرز في الغرب، بمعنى الأهمية المتعاظمة التي تمثلها التقنية في العالم بحيث لم يعد هناك انسان وطبيعة وانما هناك أنا والعالم، فيما هذه «الأنا» متضمنة في بيئة انسانية - تقنية، وهو ما جعل الانسان مركزا للكون ومصدرا للقيم.

وبهذه النقلة النوعية الشمولية شكلت الحداثة قطيعة مع التراث ومع الماضي، ولكن لا لنبذه وإنما لاحتوائه وإدماجه في مخاضها المتجدد دوما.


مفهوم الحداثة

كان هيغل أول فيلسوف وضع مفهوما واضحا للحداثة واستخدمه في سياقات تاريخية للدلالة على حقبة زمنية معينة، حيث ذكر بأن الحداثة بدأت مع عصر التنوير، بفعل اولئك الذين اظهروا وعيا وبصيرة، باعتبار ان هذا العصر «حد فاصل» و «مرحلة نهائية من التاريخ»، في هذا العالم الذي هو عالمنا وحاضرنا يفهم على انه قيمومة الزمن الحاضر، انطلاقا من أفق «الازمنة الجديدة» التي تشكل تجددا مستمرا.

كما وضع هيغل مدلولا للعلاقة الداخلية القائمة بين الحداثة والعقلانية، وهو مدلول امتد بذاته حتى وصل الى ماكس فيبر. وقد استخدم هيغل مفهوم الحداثة ضمن أطر وسياقات تاريخية للدلالة على «الازمنة الحديثة» وهو بهذا مفهوم زمني يعبر عن القناعة بالمستقبل الذي سبق وبدأ، والزمن المعاش المرهون بالمستقبل، والمنفتح على الجديد الآتي.

منذ ذلك التاريخ ابتدأ تصوير التاريخ كعملية تفاعل منسقة وخلاقة للمشاكل ومن هذه اللحظة اصبح الزمن معاشا في مواجهة القضايا التي تطرح نفسها كسلطة نادرة، وبقول آخر «كزمن يلاحقنا».

واذا جاز لنا ان نحدد تاريخا موجزا وسريعا لمفهوم الحداثة، فيمكننا القول بأن المفهوم يعود الى بداية القرن التاسع عشر فقد ذكر هيغل أن الأزمنة الحديثة تخص ثلاثة قرون تمت فيها تحولات مهمة وهي:

1 - اكتشاف العالم الجديد. 2 - عصر النهضة. 3 - عصر التنوير.

العدد 2688 - الخميس 14 يناير 2010م الموافق 28 محرم 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً