العدد 2343 - الثلثاء 03 فبراير 2009م الموافق 07 صفر 1430هـ

«حماس» بين الجغرافيا والإيديولوجيا

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

خلال فترة العدوان الإسرائيلي، المدعوم أميركيا، على قطاع غزة أطلقت الكثير من الخطابات النارية انتقدت سياسة السلطة المصرية في إدارة معبر رفح الفلسطيني. التصريحات أعطت مفعولها العكسي ولم تساعد على رفع الحصار عن أهالي غزة باعتبار أن المسئولية في النهاية تقع على الاحتلال وهي من إنتاجه.

التهجم على مصر لا قيمة سياسية له لأن الجغرافيا تلعب دورها في صوغ العلاقات وتحديد المهمات. فالمعبر في التحليل الأخير يخضع للموقع وشروطه الموضوعية في ضبط «الإيديولوجيا» وإعادة تطويعها حتى تتكيف مع العقلانية السياسية. و«حماس» مهما حاولت التهرب من هذا الواقع الجغرافي - الموضوعي ستجد نفسها في نهاية المطاف مضطرة للتأقلم مع قنوات الدبلوماسية المصرية التي تقوم حساباتها على مجموعة عوامل تتجاوز حدود قطاع غزة.

مشكلة «حماس» في القطاع تقارب كثيرا مشكلة لبنان مع سورية. فهذا البلد الصغير لا يستطيع التهرب من شروط الجغرافيا السياسية مهما اختلفت رؤيته مع دمشق. ولبنان في هذا المعنى مضطر لإعادة قراءة علاقاته السياسية مع سورية لأن دمشق تشكل جغرافيّا ذاك المعبر اللوجستي الذي لا يمكن الاستغناء عنه باتجاه العمق العربي. كذلك حزب الله فإنه لا يستطيع تجاوز المعبر السوري في حالات التفاوض مع «إسرائيل» أو في مراحل التصادم والمواجهات. فالحسابات الإيديولوجية تخضع في النهاية لمجموعة اعتبارات تفرض شروطها السياسية واللوجستية (الممر الجغرافي) على المقاومة. حتى حين تطالب قوى «14 آذار» دمشق بفتح جبهة الجولان ومساعدة لبنان عسكريا ودعمه سياسيا في المواجهات المتقطعة أو الدائمة مع الاعتداءات الإسرائيلية فإنها تجد نفسها متصادمة مع حسابات النظام في سورية. واختلاف القراءة بين الدولة والمقاومة في لبنان يشبه كثيرا ذاك الاختلاف في رؤية الصراع بين مصالح الدولة في سورية وظروف «الإخوة» ووحدة «المسار» و«المصير».

النظام في دمشق يرى دائما في دعوات قوى «14 آذار» للتدخل عسكريا ضد «إسرائيل» وحماية البلد الصغير والشقيق مجرد مزايدات وشعارات تريد إحراج الدولة وتوريطها في معركة (مغامرة) ليست مستعدة لها وغير جاهزة لتحمل تبعاتها وتداعياتها. والنظام في القاهرة ليس بعيدا في تصوراته عن تلك التفسيرات التي تصدر تباعا عن قوى «14 آذار» في لبنان. فالدولة دائما لها حسابات مختلفة وهي مهما تطورت سياسيا فإنها لن تكون متطابقة إيديولوجيا مع المقاومة ورؤيتها لطبيعة الصراع مع «إسرائيل».

الواقع الجغرافي يبقى الأقوى من كل التصريحات والخطابات والمطالبات لأنه يشكل الإطار الموضوعي الثابت الذي يفرض شروطه ويضغط سياسيا للتعامل معه. والمعبر (الممر) في النهاية يخضع عمليا للموقع الجغرافي ما يرسم على القوى المعنية إعادة التفكير بالكثير من المعطيات حتى تتناسب الطموحات الإيديولوجية مع الدور المطلوب للمساعدة سواء على مستوى رفع الحصار أو على مستوى إعادة إعمار ما دمرته آلة الحرب الإسرائيلية في القطاع.

المسألة ليست إيديولوجية ولا يمكن التعامل معها تحت وقع التصريحات البخارية وإنما هي تحتاج إلى رؤية واقعية تتعامل مع السياسة بصفتها مجموعة شروط تتحكم في مداخلها ومفاصلها اعتبارات جغرافية لها اتصال بالموقع والدور. وفصل الموقع عن الدور لا قيمة عملية له لأنه في النهاية يقلل من إمكانات الصمود والممانعة ويؤخر احتمالات الإعمار في ظل الحصار.

هذه العناصر الموضوعية لابد أن تكون قيادة «حماس» على اطلاع عليها ومع ذلك بالغت في قوتها الذاتية وتجاوزت حدود المواقع وشروط المعابر والممرات ودخلت في مواجهة عسكرية مع الفصائل الفلسطينية خلال السنتين الماضيتين في القطاع ما أدى إلى تحميلها مسئوليات اجتماعية ومدنية وأمنية لابد من أخذها في الاعتبار لتلبية حاجات أهالي غزة للغذاء والدواء والمياه والكهرباء والتربية والتعليم. ومثل هذه المواد لا يمكن الاستغناء عنها وهي تتطلب من السلطة التي تدير القطاع سياسة واقعية تتعامل بحكمة مع الجغرافيا وما تفرضه من شروط لا تستطيع التأقلم مع «إيديولوجيا» المقاومة. وبهذا المعنى اللوجستي تصبح الأنفاق «السرية» ليست كافية لتأمين الحد الأدنى المطلوب لتحسين شروط الممانعة والمقاومة.

«حماس» في هذا الإطار (الجغرافي السياسي) تعاملت إيديولوجيا مع حاجات القطاع حين انتقلت عمليا من موقع المعارضة (المقاومة) إلى موقع السلطة ما أدى إلى فتح ملفات كثيرة ترددت في التعامل معها بواقعية. كذلك أخطأت في تقدير مهمات السلطة حين حصرت وظيفتها بالأمن واكتفت بضمان استقرار الهدوء على الحدود ولم تنجح في تطوير مسئولياتها باتجاه تحسين علاقاتها مع الجغرافيا (مصر) والسياسة (منظمة التحرير الفلسطينية).

مفارقات وأخطاء

جاءت المفارقة من جانب «حماس» حين وافقت على التهدئة الأمنية لمدة ستة أشهر التي صاغتها الدبلوماسية المصرية بالتفاهم مع تل أبيب مقابل رفض التصالح مع الفصائل الفلسطينية وتلك التهدئة السياسية مع سلطة رام الله ومنظمة التحرير. وساهمت المفارقة في رسم علامات استفهام وتعجب بشأن سياسة «حماس» في قطاع غزة. وكان السؤال هل من المعقول أن توافق «حماس» على التهدئة (حرس حدود) مع حكومة إيهود أولمرت وترفض التفاهم (التصالح) مع السلطة الفلسطينية؟

الأجوبة «الحمساوية» كانت مختلفة وغير مقنعة حتى بالنسبة للجانب المصري. فالدبلوماسية المصرية اعتمدت سياسة الإطارين (تهدئة أمنية مع «إسرائيل» تسير في وقت واحد مع مصالحة وطنية مع الفصائل الفلسطينية) حتى تستقيم الأمور وتستقر... وإلا فإن التسوية ستتجه نحو الانهيار.

كان على «حماس» أن توافق على الإطارين حتى تستقر ظروف قطاع غزة وتتحسن قدراته الذاتية على الصمود. إلا أن «حماس» وافقت على تهدئة الحدود أمنيا مع «إسرائيل» لمدة ستة أشهر ورفضت تهدئة التوتر السياسي مع السلطة الفلسطينية ما فرض عليها لاحقا أما تجديد فترة التهدئة مع حكومة أولمرت أو كسرها. كان هناك صعوبة على «حماس» أن تقنع جمهورها بأنها ستواصل سياسة التهدئة مع «إسرائيل» لمدة زمنية إضافية مقابل استمرار المواجهة مع السلطة الفلسطينية وفصائل منظمة التحرير. كذلك كان هناك صعوبة على الدبلوماسية المصرية أن تواصل تنشيط قنوات الاتصال مع السلطة الفلسطينية في وقت رفضت «حماس» التوجه إلى القاهرة لتوقيع اتفاق التفاهم مع مختلف الفصائل.

انغلاق القناة المصرية وضع «حماس» أمام توجهين أما توقيع اتفاق التفاهم مع الفصائل الفلسطينية حتى تستقر المعادلة مع «إسرائيل» وأما رفض تمديد الهدنة مع تل أبيب حتى تكون الخطوة بالاتجاه الصحيح وبالتالي تصحيح الإلتواء وإسقاط تهمة «حرس الحدود».

حين اتخذت «حماس» قرار رفض تمديد التهدئة في وقت تمسكت في سياسة رفض التفاهم مع السلطة الفلسطينية كانت تدرك سلفا النتائج التدميرية التي سيدفع ثمنها أهالي القطاع... ولكنها قررت السير في هذا الاتجاه لأنها أصبحت في «موقع إيديولوجي» لا تستطيع منه تبرير تهدئة مع تل أبيب في وقت ترفض التصالح مع الفصائل الفلسطينية.

الآن وقع العدوان ولم يعد بالإمكان إعادة عقارب الزمن إلى الوراء. إلا أن الجغرافيا لم تتغير. فهناك الموقع وهناك الدور وهناك السياسة التي تتعامل مع الصراع انطلاقا من حسابات الواقع لا الخطابات الايديولوجية. وأسوأ ما يمكن أن تسقط فيه «حماس» هو أن تعاود تكرار الأخطاء التي ارتكبتها خلال تجربة حكم قطاع غزة في فترة السنتين الماضيتين وتلجأ إلى القبول بالتهدئة مع «إسرائيل» لمدة سنة أو أكثر لتعزيز مواقعها وانفرادها بالإدارة مقابل رفض التفاهم مع السلطة الفلسطينية والتصالح مع فصائل منظمة التحرير.

إعادة إنتاج تلك السياسة سيزيد من صعوبات قطاع غزة وسيضع الأهالي أمام تحديات خطيرة تتصل ليس بالأمن فقط (هدنة مع تل أبيب) وإنما بشروط التعامل مع الجغرافيا وما تفرضه من تسوية وطنية تطمح لتلبية حاجات القطاع من ضرورات حياتية ومواد لابد من تأمينها للبدء في إعادة الإعمار. جانب الهدنة مع «إسرائيل» يجب أن يتناسب مع الجانب الآخر وهو المصالحة الوطنية الفلسطينية وحماية منظمة التحرير من التفكك والانهيار... وإلا ستكون الخطوة ناقصة لأنها ستنقل المشكلة من الحدود مع «إسرائيل» إلى معركة داخلية ضد الفصائل الأخرى ما يهدد رمزية القضية الفلسطينية بالمزيد من الانقسامات والتفريغ والانحراف عن الخط الصحيح.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2343 - الثلثاء 03 فبراير 2009م الموافق 07 صفر 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً