العدد 2686 - الثلثاء 12 يناير 2010م الموافق 26 محرم 1431هـ

الفرد ومأزقه في العالم العربي

منبر الحرية comments [at] alwasatnews.com

مشروع منبر الحرية

نادرا - بل نادرا جدا - ما يشعر المرء، وخاصة الفرد المبدع بحالة من الراحة النفسية الكاملة، تجاه ما يتم تقديره واحترامه وتشجيعه في الأوساط الاجتماعية المحيطة به، لما يقوم به من دور وإبداع في خدمة مجتمعه والإنسانية جمعاء.

ولعل الأكثر معاناة في هذا الصدد، هو ذو الكفاءة أو صاحب موهبة أو من امتلك طاقة خلاقة، إذ يشعر الإنسان المبدع أنه بالرغم من عطائه الرائع فإنه يهمل ويهمش، ليس هذا فحسب وإنما يتعرض للمضايقة والعرقلة والتشويش عليه وعلى إبداعاته، وفي كثير من الأحيان يحارب - بفتح الراء - (بالاستناد إلى مقولة مفادها: يكتشف المبدع بتلك العلاقة الدالة وهي تحالف جميع الأغبياء ضده)، إن هذه الظاهرة تندرج ضمن إطار مأزق الفرد في المجتمع.

لقد تناول هذا المأزق عدة كتاب وباحثين مرموقين في العالم العربي، فالشاعر العربي الكبير أدونيس يسلط الضوء على هذا المأزق، ويرى (في محاضرة له بالقاهرة) أن الفرد في المجتمع العربي المسلم يعاني التهميش الذي تمارسه مؤسسات تمحو الذاتية لصالح مفهوم الأمة أو الجمهور الذي قال بأنه فكرة ايديولوجية.

إن الفرد المسلم - بحسب أدونيس - يعيش الآن رهين محبسين: هما التأويل الوحداني والتأويل السلفي للنص الديني، وهذا يؤدي إلى انمحاء وذوبان الفردية في الجماعة - الأمة - ويشير إلى محاولات في التاريخ العربي لاختراق هذين المحبسين على أيدي بعض الشعراء والمتصوفة، حيث يرى أن التصوف أعمق ثورة في تاريخ الإسلام، ويضيف أدونيس بالقول: إن جميع الأحزاب تلغي الهو في سبيل الهم.

ويتناول الباحث الدكتور مصطفى حجازي في كتابه «الإنسان المهدور» - اصدار 2005 - تهميش الفرد في المجتمع من خلال البحث في سيكولوجية هدر الطاقات وهدر الإمكانات وانمحاء الفرد ضمن الجماعة - الدين - القومية - القبيلة - الطائفة -...الخ، ويرى حجازي أنَ ثقافة الولاء للعصبية لا تفعل سوى هدر الطاقات والكفاءات التي طالما اعتبرت ثانوية، تهدر الطاقات الأكثر حيوية وعطاء على مذبح الولاء والتبعية، وبالتالي تهمش فئات كبيرة من ذوي الكفاءات حتى النادرة منها، وتدفع إلى المنفى الداخلي أو الخارجي ما لم تقدم فروض الطاعة والولاء وبراهين التبعية التي لا يداخلها شك، يقرب الموالون ولو كانوا من ذوي الكفاءات الرديئة والانجاز المتدني بينما تهدر الطاقات الوطنية الثمينة، ثقافة الولاء هي ثقافة الهدر ذاته، وهذا ما يفسر تعثر التنمية ويعم التخلف، والمبعدون والمنفيون من ذوي الكفاءات يجترون الإحباط والمعاناة ويشتعل في نفوسهم الغضب على واقع الحال.

ويشير إلى أن الإنسان إذا تم الاعتراف به كإنسان وبشكل غير مشروط فإن الآفاق الرحبة تفتح أمامه، ويعيش التوازن النفسي والوفاق مع الذات، ومع العالم ومع الآخرين، وتنمو لديه الثقة بالنفس والنظرة الإيجابية إلى الذات، والدافعية للعمل والإنجاز، وصولا إلى الإبداع.

يشدد الباحث على ثقافة الإنجاز والعمل تبعا لناموسها، وبرأيه في ثقافة الإنجاز التي تشكل قاعدة كل نماء وبناء، لا يرى المرء من مفهوم لذاته أو تصور إلا باعتباره كائنا منجزا يحسن تنمية طاقاته وتوظيفها، كما أن صناعة المستقبل قائمة على الجهد الذاتي والجماعي بما فيه من تجديد وإبداع.

ويؤكد الباحث على ضرورة الاعتراف بحق الإنسان بالكيان، وصيانة حرمة هذا الإنسان وتأمين الحاجة والخوف كشرط مسبق لبناء الاقتدار الإنساني الذي يشكل نواة أي إنجاز أو إنتاج أو تقدم أو تنمية الإنسان أولا وفي الأساس، والاعتراف بإنسانيته كمنطلق ومآل ووسائل، وكل ما عدا ذلك جهد مهدور وأمل ضائع.

أما الأستاذ حازم صاغية فيحرر في كتابه «مأزق الفرد في الشرق الأوسط» - الساقي 2005 - عدة مقالات للكثير من الباحثين والكتاب في مجال الفردانية في الشرق الأوسط، وكل يتناول الفردانية في منطقته، أو ما يختص ويهتم به في تلك المنطقة عبر فصول الكتاب.

ويفرد في الكتاب فصلا عن الفردانية في الشرق الأوسط العربي، بالإضافة إلى مقدمة غنية بالأفكار الحيوية والمهمة، إذ ضمت رؤية نقدية واضحة لمكانة الفرد في التاريخ العربي.

يشير الباحث صاغية، على أنه في الواقع لقد وجد الأفراد دائما في الشرق الأوسط، كما في غير مكان من كوكبنا، وهؤلاء الذين تربطهم ألفة ما بالتاريخ والأدب العربيين يعرفون بالشعراء «الصعاليك»، فآراء وأعمال هؤلاء الشعراء كانت مرفوضة في قبائلهم وجماعاتهم، وكان عليهم أن يهجروا منازلهم وأصحابهم ليعيشوا في منافي الأراضي المهجورة في الصحراء، غير أن ما لم يوجد هو الفردانية لأن هذه لا تظهر إلا مع الحداثة وبفضلها، لكن مجتمعا يوجد فيه أفراد من دون التنبؤ بتصرفاتهم أو كطائشين أو في - أحسن الأحوال - كمتطرفين، ويكونون عرضة للتضحية بهم من دون سبب، وفرديتهم المقموعة إنما تجد مخارج قليلة للتعبير عن نفسها فيكون ملاذها الأسهل في بعض الإيماءات الجسدية الشاذة، أو في سلوك هزلي ما أو كما هي حالة الصعاليك، في بعض الشعر «الغريب» سواء في مفرداته أم في محتواه، ولهذا يصعب أن تصدر مواقف متماسكة منطقيا عن هؤلاء الأفراد فهم لا يستطيعون تطوير خطاب فرداني في ما يخص الحياة والموت، الحب والكره، السياسة والثقافة.

وهنالك هضم للحقوق الفردية ضمن سياق المطالبة بالحريات سواء للشعوب المنضوية تحت أطر دول معترف بها أو للأقليات المضطهدة، فالتجربة توضح أن هنالك تضحية بالحريات الفردية من أجل الحريات الجماعية، ولقد شهدت الأحزاب العربية والكردية حالات من إهمال الفرد والتضييق على حرياته، بالرغم من شعارات وأهداف هذه الأحزاب بالحرية والديمقراطية والنضال ضد الاضطهاد والدكتاتورية والاستبداد، ومارست هذه الأحزاب أساليبا غريبة بحق الأعضاء الذين قرروا لسبب ما الانفكاك من هذه الأحزاب، من نبذهم وعزلهم واتهامهم وحتى تخوينهم في كثير من الحالات، هذا ولعل اندفاع الكثير من الأفراد للانخراط في هذه الأحزاب لا يأتي بسبب قناعاتهم بهذه الأحزاب وإنما بغية صنع وجاهات سياسية للحصول على رضا الجماهير وتقديرها مستغلين حالات التخلف الشعبي الواسعة، ولعل تهميش الفردية يتبدى في المجال الإعلامي والفكري على شاشات الفضائيات الكردية من خلال إظهار شخصيات لا تمتلك الإمكانات الإعلامية والفكرية للدفاع عن الكرد وقضيتهم العادلة، وذلك بسبب انتمائهم الحزبي بينما يتم إهمال وتهميش شخصيات تمتلك تلك الإمكانات وذلك لأنها شخصيات مستقلة غير منتمية لأية أحزاب.

وهذا الإقصاء وهذا التهميش الممارس من قبل الأحزاب بحق أعضائها المستقيلين يقابله في الأنظمة العربية إقصاء وتهميش للخبرات والكفاءات والطاقات العلمية والثقافية والفكرية، وهذا ما يؤدي في الداخل للاغتراب والتقوقع والانحسار الإبداعي وفي الخارج إلى هجرتها والاغتراب الاجتماعي عن البلد الأصلي والتعرض لازدواجية التجنس واللغة والثقافة والتقاليد.

لكن رغم ذلك فإن هذه الطاقات تبدع وتنجز في مجالاتها إنجازات رائعة ما لا يتاح أمامها في بلدانها الأصلية، بسبب توفر المناخات الديمقراطية الكافية وملاقاتها للدعم والتحفيز والمساندة من المؤسسات الحكومية والمدنية في بلدان المهجر، والأمثلة كثيرة وعديدة ابتداء من فاروق الباز رائد الفضاء الأميركي - المصري الأصل - ومرورا بأدونيس الشاعر السوري والمرشح لجائزة نوبل للآداب وانتهاء بأحمد زويل المصري الأصل - الحائز على جائز نوبل في الكيمياء، وغيرهم.

إنَ ما يدعو للألم والأسى حقا أن الفردية في العالم العربي تغيب وتتيه أمام موجات من المغالاة والمتاجرة الشعاراتية والصراخ في الفراغ، بينما الفرد المبدع يبحث عن إنسانية مبدعة متجسدة في الفرد لبناء مجتمعات قوية وسليمة ومعافاة من أمراض سياسية واجتماعية أدت وتؤدي إلى تخلف هذا العالم (العالم العربي) وتعرقله عن اللحاق بركب الحضارة العالمية.

* كاتب سوري، والمقال ينشر بالتعاون مع «مشروع منبر الحرية www.minbaralhurriyya.org»

إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"

العدد 2686 - الثلثاء 12 يناير 2010م الموافق 26 محرم 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً