العدد 2679 - الثلثاء 05 يناير 2010م الموافق 19 محرم 1431هـ

أين 8 و14 آذار؟

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

أين أصبحت ملايين 8 و14 آذار التي زحفت مرارا من كافة المناطق اللبنانية وتجمعت تكرارا في شوارع بيروت للتعبير عن مشاعرها ومطالبها؟

بالتأكيد لم تتبخر تلك الأمواج البشرية الهادرة ولم تغادر أمكنتها. فهذه الملايين لاتزال على حالها تنتظر انفراج أزمة يرجح ألا تنفرج.

الخيبة التي تعيشها تلك الملايين لا تقتصر على جمهور 8 آذار الذي أصيب بصدمة خسارة الانتخابات النيابية في يونيو/ حزيران الماضي وإنما تشمل أيضا جمهور 14 آذار الذي تلقى ضربة الفوز في المكان الخطأ. مضاعفات الفوز أحيانا لا تقل في سلبياتها عن تداعيات الخسارة وخصوصا حين تكون ساحة اللعبة محكومة بقانون الطوائف والمذاهب والمناطق وآليات الزعامات الضيقة التي تغلب مصالحها الخاصة على الحق العام.

ملايين 8 و14 آذار لاتزال موجودة ومتفرقة في هضاب لبنان ووديانه وقراه ومدنه، وهي في مجموعها تشكل تلك اللوحة التكعيبية - السوريالية التي يصعب على المشاهد فهم رموزها وإشاراتها. فالفوضى في اللون والرسم وتكسير الأشكال تمثل صورة بلاد الأرز الحقيقية. والفوضى في صيغتها الفنية المعاصرة كانت ردة فعل عشوائية ضد الأشكال الهندسية والانسجام الطبيعي للأشياء وهي تبلورت في مطلع القرن العشرين في مدارس أوروبية حاولت الخروج من مأزق ثقافة الحروب وما جلبته من ويلات على شعوب القارة.

اللوحة السياسية اللبنانية تشبه في رموزها وإشاراتها تلك المدارس الفنية والفلسفية التي اجتاحت أوروبا لتخرج من تحت أنقاض الحروب وتضاعيف الخراب الشامل. والرسوم العشوائية التي اجتاحت المعارض الفنية كانت تعكس بالعين المجردة صورة الواقع الأوروبي آنذاك وما خلفته الحروب الدائمة من دمار وخراب وتحطيم للأشكال الهندسية.

لبنان يشبه في تموجاته البشرية تلك الانكسارات التي أحدثتها الحروب على أرضه وعمرانه. وتحطيم الأشكال الهندسية يعكس فعلا ذاك التمزق الأهلي الذي تعيشه بلاد الأرز وما يعنيه التمزق من ضياع الهوية وازدواج الخطاب السياسي وقلق الإنسان وتوتره وغياب آفاق المستقبل. والعبثية في المشهد اللبناني ليست مصطنعة بقدر ما هي تمثل حالات من التخبط والفوضى وضياع الأحلام والتذبذب في القراءات والاختيارات.

هذه التراجيديا ليست بالضرورة مبكية وإنما تحمل في جنباتها الخفية بعض الصور المضحكة عن عالم غير مستقر ومشدود دائما نحو التغير. المشهد اللبناني في صوره المبكية - المضحكة ليس بعيدا عن الفضاء الإقليمي وتقاطعاته الدولية ولكنه في الآن يضفي على اللوحة التكعيبية - السوريالية بعض الخصوصيات التي تعطي الرسومات نكهة مزاجية في عشوائيتها.

الملايين المسكينة لم تغادر لبنان وتهاجر هربا من مواعيد واستحقاقات، فهي لاتزال موجودة وتعيش حالات من البرودة والهدوء بانتظار التطورات المتوقع حصولها في المحيط والجوار القريب أو البعيد. فهذه الملايين لاتزال جاهزة للتحرك ولا يستبعد أن نرى بعضها يتظاهر مع 8 آذار مقابل خروج البعض للتظاهر مع 14 آذار. وعملية التغيير في المواقع وتبادل المقاعد ليست جديدة في بلد طائفي تسيطر المذهبية على عقله ومصالحه.


عون وجنبلاط

الجنرال ميشال عون مثلا كافح ضد سورية وقاتل المقاومة تحت مظلة «استرداد حقوق المسيحيين» انشق باكرا عن 14 آذار وانضم إلى 8 آذار وأخذ يصارع انتخابيا حتى نجح في انتزاع 4 مقاعد مسيحية من 8 آذار. هذا الجنرال يعاني الآن القلق من تراجع قيمة أرصدته وأسهمه في بورصة الانفتاح الإقليمي - المحلي على دمشق. وبقدر ما تنمو العلاقات بين سورية ومحيطها ومجالها الجغرافي السياسي يتراجع السعر التقديري لأسهم عون في سوق التداول النقدية.

بورصة وليد جنبلاط أيضا تعاني من اضطراب نقدي بسبب الصعود والهبوط في قيمة التسعير وحسابات الربح والخسارة. فالأسهم التي سارع إلى بيعها بثمن منخفض في لحظة مزاج قلقة أخذت ترتفع في مجال آخر من دون أن يتحصل على بديل مريح يعيد له التوازن المطلوب. وجنبلاط الذي ينتظر الإشارة لايزال يعيش أهواء الانشقاق المتأخر عن 14 آذار ولم يستطع ترسيم حدود الاستدارة التي قررها علنا بعد إعلان نتائج الانتخابات النيابية.

النموذجان (عون وجنبلاط) يكفيان للدلالة على مدى الفوضى التي تعيشها جماهير بلاد الأرز. فهذا الكيان تتحكم بمصيره الطوائف والمذاهب وهو لايزال في طور البحث عن دولة تضمن له هويته واستقراره. والبلد الذي لا هوية له ولا دولة يصبح عرضة للتقلبات الدائمة التي تدفعه عنوة إلى مسالك متخالفة وملاجئ مؤقتة ومساكن متنقلة.

السؤال عن مصير ملايين 8 و14 آذار لا جواب عنه في ساحة جغرافية مفتوحة ومكشوفة يعاد تشكيل لوحتها الزيتية بألوان قابلة للتعديل والتغيير تتماثل كثيرا مع تحطيم الأشكال الهندسية التي لجأت إليها المدارس الفنية التكعيبية - السوريالية في أسوأ لحظات أوروبا دموية. والسياسة في جانب من جوانبها مدرسة في الفن سواء من حيث التلاعب بالألوان والانقلاب على الأصدقاء ومغادرة الحلفاء وتضييع الاتجاهات وافتعال الحروب وتخليق أعداء واصطناع انتصارات وهمية وترضية الجمهور بالكلام والضحك على غيره بالوعود وحفلات الانتظار.

في هذا المعنى الفني العشوائي تصبح 8 و14 آذار متساوية في معادلة الربح والخسارة، لأن التحالفات السياسية التي تقوم على قاعدة اللقاءات الطائفية والمذهبية لن تعيش طويلا في حال تخطت التقاطعات الضيقة وتلك التوافقات على نقاط بسيطة. فالتحالف المؤقت المحكوم بالغضب أو الخوف أو القلق يتشكل سياسيا في إطار ردة الفعل... وحين يتلاشى زخم تلك الردة بحكم التقادم الزمني يبدأ التجمع المليوني بالتشتت والانكفاء إلى تلك الحصون والتفرق مجددا على عشرات المدن ومئات البلدات والقرى في هضاب لبنان ووديانه.

جماهير 8 و14 آذار لم تتبخر أو تفقد وظيفتها وإنما هي تعيش حال هدنة مجبولة بالخيبة والإحباط وفي الآن تنتظر إشارات نزول باتجاهات متخالفة عن السابق ولكنها بالتأكيد ستؤدي مجددا إلى نهايات متشابهة. لبنان بلد أزمات وحسنته الكبيرة أنه يعترف بها ويمتلك الاستعداد للتضحية المجانية ومن دون خجل من أجل ديمومتها واستمرارها.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2679 - الثلثاء 05 يناير 2010م الموافق 19 محرم 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 8:08 ص

      حسن حيدر

      14 ( غدار ) سبب كل المآسي في لبنان و قادتها هم من أشعلوا الحروب الأهلية في لبنان ، عون حارب سوريا وأذهب عشرات الآلآف من الضحايا وفي النهاية عاد إليها وأصبح حليفا لها ! جنبلاط هاجم سوريا وحاربها وقال عن رئيسها (بشار الموت) وها هو يتذلل إليها ويمدحها ّو يقول عنها : سوريا عمقنا العربي!! الحريري اتهمها بقتل والده والآن يصافح رئيسها باتسامة عريضة !!! يا أخي لماذا لم تتحالفوا معها منذ البداية ؟وتجنبوا لبنان كل تلك الحروب الأهلية ؟!عجبا من رجال السياسة، الناس سلع عندهم.

    • زائر 2 | 1:05 ص

      ستراوي

      السياسة مصالح ..

    • زائر 1 | 12:36 ص

      ولكن ما العمل؟!!!!

      يا أستاذ نويهض لقد قضّ مقالك مضجعي ولم يزل لأنك لم تطرح حلول لما ذكرت من وضع أشبه ما يكون بالجمر من تحت الرماد الذي ينتظر ريحاً تهب لتقشع الرماد وينفجر الجمر.
      ما هي حلولك؟ ما هي استراتيجيتك؟ لحل هذه الازمة؟

اقرأ ايضاً