العدد 2678 - الإثنين 04 يناير 2010م الموافق 18 محرم 1431هـ

الكراهية والسرّيّة

نادر كاظم comments [at] alwasatnews.com

.

أصبحت المجاهرة بالكراهية، اليوم، باهظة التكاليف والتبعات، ولكن كيف تمكّن الناس من التعبير عن كراهيتهم في الماضي دون تكاليف باهظة؟ كان للعزلة بين الجماعات المتكارهة (التي تتبادل الكراهية فيما بينها) دور أساسي في تأمين الأجواء المناسبة لانتعاش الكراهيات في التاريخ، إلا أن المفارقة، هنا، أن عزلة الجماعات هي التي حمت الجميع من المواجهات المباشرة المدمّرة. والسبب أن العزلة وفّرت بيئة شبه سريّة لإنتاج الكراهيات، كما أن تداول هذه الكراهيات كان يتم داخل الجماعة وبعيدا عن أنظار وأسماع الجماعات الأخرى التي لا يتأتّى لها، في كل مرة، الاطلاع على هذه الكراهيات المستفزة التي تستهدفها. كان هذا حال معظم الكراهيات الجماعية في التاريخ، وكانت هذه واحدة من حسنات العزلة التاريخية. إلا أن هذه العزلة لم تكن بهذا الإحكام الذي نتصوره، فقد كان ثمة فجوات وتشققات تسمح بانتقال الكراهيات بين الجماعات المُتَكارِهة. وكان علينا أن ننتظر موجات متجددة من المواجهات والاستفزازات في كل مرة يتسرّب فيه خبر الكراهيات خارج الفضاء الخصوصي للجماعات. ومع هذا، فلو لم تكن هذه العزلة موجودة لكان يمكن لهذه المواجهات أن تكون مدمّرة بصورة جنونية.

ولكن كيف نتحدّث عن سرية إنتاج الكراهيات وتداولها ونحن نعرف أن معظم هذه الكراهيات قد تم تدوينها في مؤلفات ورسائل؟ وكيف نتحدث عن عزلة سرية للكراهيات في ظل وجود الكتابة؟ لقد كانت الكتابة واحدة من أدوات التواصل التلقليدية التي هيّأت الأرضية لتجاوز العزلة: عزلة القلب لأن الكتابة تدوين خارجي للمشاعر والأفكار، وعزلة الجماعات لأن للكتابة قابلية للذيوع والانتشار في المكان وخارج الفضاء الخصوصي والسرّي للجماعات. إلا أن علينا ألاّ نبالغ في هذه الخاصية للكتابة في التاريخ حيث كانت معظم الثقافات شفاهية، كما كانت أعداد من يجيدون فكّ الخط محدودة جدا. يضاف إلى هذا أن عملية نسخ الكتب كانت تتم بصورة يدوية، مما يعني أنها كانت عملية مرهقة وباهظة الثمن. مما يعني أن عدد النسخ الممكن إنتاجها سيكون محدودا، إلا إذا كان هذا الكتاب يحظى باهتمام خاص ومركزي في ثقافة من الثقافات كما هو الحال في الكتب المقدسة، أو كان ثمة من هو مستعد من الملوك والأمراء والسلاطين لدفع تكلفة عملية نسخ أعداد كبيرة من هذا الكتاب أو ذاك، ومما يُذكر، في هذا السياق، أن خزانة كتب الفاطميين بمصر كانت تضم ألفا ومائتي نسخة من كتاب «تاريخ الطبري». وفيما عدا هاتين الحالتين، يمكننا أن نستنتج أن المشافهة (عبر الخُطب على سبيل المثال) كانت أوسع انتشارا وأعظم خطورة من الكتابة في هذا النوع من الثقافات.

إلا أن للكتابة قدرة على تجاوز العزلة التاريخية زمنيا، وهو ما يخلق فجوة زمنية بين زمن التأليف وزمن القراءة المتجدد باستمرار. فكتب الكراهية القديمة جرى تأليفها في أزمنة بعيدة عنا، إلا أننا نقرأها هنا والآن، كما أن لدينا القدرة على تحيينها بحيث نقرأه وكأنها أُلّفت الآن متناسين أنها ألّفت في زمان غير زماننا، زمان كانت له اهتماماته الخاصة وطرائق تواصله/ لا تواصله التي تختلف عن اهتماماتنا وطرائق تواصلنا/لاتواصلنا اليوم. وتسمح هذه الفجوة بين الزمنين بانفلات الكتابة بعيدا عن مقصد صاحبها، وتسمح، كذلك، بتقويل صاحبها ما لم يقله وما لم يكن يعنيه. فجريان الزمان وتقلّب الظروف قد يقلبان معنى كتابة ما رأسا على عقب.

ولكن، هل كان لدى مؤلفي كتب الكراهية السابقين وعي تاريخي بالمسار المحتمل لمؤلفاتهم مع تقدم الزمن؟ وهل كان الواحد منهم يفكّر بمن سيأتي بعده ويُبتلى بقراءة مؤلفاته المستفزة؟ أو هل كان هؤلاء يتصورون أن مؤلفاتهم سوف تُقرأ بعد وفاتهم؟ وهل كانوا يُقيمون أي اعتبار لقارئ مستقبلي مسكين سيأتي بعد زمانهم ويبتلى بما خطّته أيديهم؟ قد يكون الإقدام على الكتابة مؤشرا أوليا على وجود هذا الوعي لدى هؤلاء، فهم حين قرّروا أن يكتبوا ما يفكرون به وما كان يدور في خواطرهم بدل إرساله مشافهة في خطبة هنا أو هناك، فإن هذا بحد ذاته يدلّ على أنهم كانوا على وعي بما تنطوي عليه الكتابة من تواصلية عمومية وقابلية للانتشار في الزمان والمكان. إلا أن هذا ليس دليلا كافيا، لأن المرء قد يكتب لا بغاية التواصل العمومي لا مع معاصريه ولا مع من يأتون بعده، بل قد يعمد أحيانا إلى جعل كتابته سرية للغاية كيلا يطلع عليها سوى مجموعة ضيّقة جدا من القراء الموثوقين، أو قد يعمد إلى صياغتها بصورة مشفّرة بحيث تكون ملغزة لا يفهم مقصودها إلا تلك المجموعة الضيّقة من المؤتمنين على السرّ.

ليست الكتابة سرّا، بل هي فعل مضاد للسرّ؛ لأن السرّ يتأسس على التكتم والتستر والإخفاء، في حين تقوم الكتابة على الإظهار والإذاعة والانتشار. لكن هذا الافتراق بين الكتابة والسر ليس افتراقا جذريا، لأننا قد نكتشف أن في السرّ شيئا من الكتابة، وفي الكتابة شيئا من السرّية. صحيح أن السر خفي ونحرص على كتمانه، إلا أن السرّ يقوم على مفارقة مؤسِّسة لوجوده، ولكنها مهددة لكيانه في الوقت ذاته، فالسرّ لا يكون سرّا إذا كان يعرفه شخص واحد فقط، بل هو يصير سرا حين يطلع عليه اثنان أو أكثر، الأمر الذي يهدد بانكشافه وافتضاح أمره. ولهذا كان الجاحظ يرى أن السرّ «إذا تجاوز صدر صاحبه وأفلت من لسانه إلى أذن واحدة فليس حينئذٍ بسرٍّ»؛ والسبب أنه لم يبقَ بين هذا السرّ وبين أن «يشيع ويستطير» وينكشف سوى «أن يُدفع إلى أذن ثانية» (رسائل الجاحظ، ج:1، ص146). إلا أنه فات الجاحظ أن السر المحبوس في صدر صاحبه فقط ليس بسرٍّ أصلا، فهو يكون سرّا - وهذه هي مفارقته المؤسسة - إذا تجاوز صدر صاحبه وأفلت من لسانه إلى أذن واحدة أو أكثر.

وفي المقابل، يمكن للكتابة أن تكون سرّية كما هو شأن الكتابات الأمنية المشفرة، والتقارير السرية، والمعلومات السرية، والكتب الدينية السرية، ورسائل العشّاق السرية...إلخ كل هذه الكتابات هي كتابات سرية، والسرية هنا وسيلة من وسائل حماية الكتابة، إلا أنها حماية لا تتأمن على طريقة الجاحظ بدفن السر في صدر صاحبه، بل عبر تضييق دائرة التواصل وقصره على أناس محددين. فالكتابة السرّية هنا وسيلة من وسائل التواصل، إلا أنه تواصل ضيق ومغلق على أناس معينين ومحدودين، فلا يمكن أن تكون الكتابة سرّية وتنتشر وتذيع بين الناس بصورة واسعة. ومع هذا فإن السرية ليست لصيقة بهذه الكتابة بصورة لا فكاك لها منها، بل هي سمة قابلة للتلاشي في حال تسرّبت الكتابة إلى العلن وجرى تداولها خارج الدائرة الضيقة للمقربين المؤتمنين على السر.

لا أدّعي أن مؤلفات الكراهية في التاريخ كانت كتابة سرية، ولكنها لا تخلو من سرية، وهذه السرّية هي التي تخلق الفجوة الثانية التي قامت عليها كتابات الكراهية، وهي فجوة في صلب فعل التواصل، وهي المؤسسة لعمى أصحابها ولتعطيل فعل التواصل العمومي بينهم. هذه فجوة لا تشبه تلك التي اشتغل عليها ناقد مثل بول دي مان حين تحدّث عن تلك الفجوة القائمة «بين القول ومعناه» والتي تجعل الكاتب «يقول شيئا ما لا يعنيه هو نفسه» (العمى والبصيرة، ص179). الفجوة التي نقصدها هنا لا تضطر المرء لأن يقول شيئا لم يكن يعنيه، أو أن يقول خلاف ما كان يقصده، لكنها فجوة تسمح له بأن يبوح بكراهيته بحرية شبه مطلقة ودون اعتبار للآخرين المستهدفين بهذه الكراهية؛ لأنه إنما يبوح بها لأبناء جماعته وداخل الفضاء الخصوصي لهذه الجماعة. وإذا تأملنا معظم مؤلفات الكراهية القديمة سنكتشف أنها خطابات موجهة لأبناء جماعاتهم، فالمخاطب المقصود بكتابة الكراهية هو ابن الجماعة، فيما يتحوّل الآخر الغائب عن مقصودية الخطاب إلى موضوع للكتابة السلبية المقيتة والمنفرة والمثيرة للاشمئزاز. لا يتوجّه الخطاب في كتابات الكراهية إلى هذا الغائب مع أنه هو صلب موضوعها. وهذه، بمعنى من المعاني، كراهية سرية، ولكنها سرية من نوع معمّم داخل الجماعة فقط. لقد شجّعت هذه السرية على انتعاش الكراهيات داخل الفضاءات الخصوصية للجماعات، إلا أنها، في المقابل، حدّت من استفزازيتها؛ بحكم أنها كراهيات محجوبة عن أنظار وأسماع الآخرين المستهدفين بها.

وهذه قضية بحاجة إلى تفصيل نتركه لمقالة الأسبوع المقبل.

إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"

العدد 2678 - الإثنين 04 يناير 2010م الموافق 18 محرم 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 8 | 1:29 م

      من السرية إلى العمل المنظم

      الآن أصبحت الكراهية علنية منظمة لا يستحي صاحبها من تجسيدها بأقبح صورة، أنظر إلى التوظيف في الوزارات الحكومية وسترى العجب ثم ارجع بنظرك إلى القطاع الخاص وانظر من الذي يعمل فيه، ستجد أن رب العمل في القطاع الخاص يضع ثقته في (البحراني) والأجنبي لأنهما قادران على تحقيق أفضل إنجاز، أما في الوزارات فيا قلبي لا تحزن على قولة الشاعر

    • زائر 7 | 11:52 ص

      استظلال الكراهيـــة ... بظُلّة السرّيــــّة

      السرّيّة قلب الكراهية وأداة الانسجام والتناغم وطريق التنقل والمناقلة وحزام الربط بل وتتمثّل بالرمز السري الذي يملأ ويمتلئ الحاجات بالكراهية ، كما أنها ركن الاستناد الذي يسند الهدّاف ظهره إليها ، ولا يستطيع الاستغناء عن جزء من السرّيّة فضلاً عن كلها ، هذا ويحاول – دوماً - انتحال وتلفيق ليوافق الهمم الواطئة والنيّات الباطلة وذلك باستهداف المستهدفين - الغائبين - المساكين . كل الشكر للكاتب وللوسط ... نهوض

    • زائر 6 | 11:14 ص

      إبراهيم الجنوساني

      الكراهية المذهبية وزمانها المتد الى يومنا هذا صنيعة الطرفين ولاكن ترجمة مشاهد الكراهية تتجلى في ابشع صورها اليوم ,, ربما لم يضع الطرفين اعتبارات عده منها تطور الحركة البشرية بهذه الكيفية التي جعلت العالم قرية كونية صغيرة وسبب اخر الطرفان استغرقا في معارك التعصبات التي نصبتها النصوص المفخخة الموضوعة واعتبار اخر في تلك الفترة لم تكن الحياة بهذه التعقيدات التي تتحكم فيها مصالح الدول سياسيا لضمان مصالح جماعتها مستغلة التناقضات التي المذهبية والصرعات السياسية ,, كان زمن الصراع الفكري المجرد ..))

    • زائر 5 | 11:02 ص

      استاذ ونعم الاستاذ

      ياريت مشايخ هالزمن يعتمدون هذه المنهجية في القراءات التاريخة

    • زائر 4 | 10:20 ص

      أنت مبدع كما وعدناك

      و صغر سنك ينبئ بأنه سيكون لك شأن يوما ما و الله أعلم.

    • زائر 3 | 8:43 ص

      الى الزتئر رقم 2

      والله رضيت ولا انرضيت اضرب راسك بالكمبيوتر. وانا اقول لك يادكتور نادر اني من متابعين مقالاتك واعتقد انها مهمة ولا تستمع لكلام المحبطين من الطائفيين على اليمين والشمال

    • زائر 2 | 5:21 ص

      ويش تقول

      يعني اذا شترت في الجميع تكون موضوعي ؟؟
      على طريقة الظلم بالسوية عدل في الرعية ؟؟
      عزيزي هناك من يبغض ويحقد على مدى التاريخ لمصالح ما .. اما سرد الحقائق التاريخية والوقوف مع الحق .. لا يندرج مع ما تؤسس له من نظرية سيدنا قتل سيدنا .. انت نفسك اسرد احدى هذه الوقائع التاريخية وستجد نفسك متهما بما تتهم به الآخرين .. الحق والباطل لا يلتقيان ولا توجد منطقة ولامنطق وسط

    • زائر 1 | 12:27 ص

      لك طريقة مميزة في الكتابة

      كثيرين انزعجوا من مقالاتك السابقة ولكني اشوف انهم قد لا يفهمون قصدك او لا يعرفون طريقتك المميزة في الكتابة

اقرأ ايضاً