المبادرة التي طرحها مير حسين موسوي بشأن احتواء الأزمة الإيرانية المتدحرجة تعتبر خطوة إيجابية لإعادة هيكلة المصالحة في إطار الدستور. فالمبادرة اشتملت خمس نقاط لم تتطرق إلى موضوع الخلاف على تدوير انتخابات الرئاسة في يونيو/ حزيران الماضي وتوجهت فورا إلى جوهر المشكلات التي تتجاوز المناصب والمقاعد. فالنقاط تناولت مجموعة ملفات تتصل بقانون الانتخابات وتشكيل هيئة تتمتع بصلاحيات الإشراف والرقابة لضمان ثقة الجمهور بالنتائج، وتعزيز السلطة القضائية وفصلها عن السلطة التنفيذية، وإطلاق سراح المعتقلين، وإعطاء حرية للصحافة وعدم التدخل في الإعلام، والسماح بحق التظاهر والاحتجاج السلمي ومحاكمة المسئولين عن حالات الاغتصاب والتعذيب والقتل.

المبادرة تعكس نوايا حسنة وترسل إشارات للسلطة بوجود استعداد للتفاوض والحوار في إطار الحرص على الجمهورية. فالنقاط الخمس عادية وبسيطة ولا تعتبر تعجيزية ولا تحمل في نصوصها اتجاهات مغالية في تطرفها أو خطة لتقويض الدولة والانقلاب على النظام. وهذا ما ذكره محسن رضائي في رسالة للمرشد تعليقا على مشروع التسوية حين التقط الجوانب الإيجابية في المبادرة ودعا إلى البناء عليها وتأسيس خطة عمل قادرة على إنقاذ البلاد من الفوضى التي بدأت تمتد وتنتشر ولا يعرف عمق القعر الذي ستستقر عليه.

السؤال هل تتجاوب تلك الشريحة من الطفيليات (علق سياسي) مع نداء رضائي وتتخلى عن طموحاتها الخاصة في تجويف الدولة وتفريغ الثورة وطرد الجيل الأول من صورة المشهد والإيغال في دورة العنف وصولا إلى الانهيار العام؟

ردود الفعل النهائية لم تتبلور حتى الآن. ولكن المؤشرات تدل على وجود قوة خفية في السلطة ترفض التجاوب وتضغط باتجاه التصعيد ودفع النظام نحو المزيد من الانغلاق والعسكريتاريا. وهذه القوة التي تتشكل من فئات انتهازية ووصولية لا مصلحة لها بالتهدئة والاستقرار وهي ساهمت منذ البداية في إطاحة مبادرة رفسنجاني التي أعلنها في خطبة الجمعة في الشهر الأول من تفجر الأزمة. والقوة نفسها أحبطت في الشهر الماضي مشروع مصالحة تقدم به ابن الشهيد مطهري وتناول خطة عمل تتألف من سبع نقاط.

مصلحة هذه الشريحة من الطفيليات أن لا تستقر الدولة على قاعدة التسوية والمصالحة لأنها ترى في الجيل الأول قوة منافسة يمكن أن تقطع عنها ذاك الفائض من الأموال التي تكسبها من موقعها الذي يضمن لها الموارد من قطاعات الاقتصاد الحديث (الغاز والنفط والتصنيع الحربي وهيئة الاتصالات). وطبيعة هذه الشريحة الحديثة النعمة تقوم على سياسة مواصلة عزل الجيل الأول وطرده وملاحقته وتجفيف ينابيع وموارد الاقتصاد القديم (قطاعات البازار) وما يشكله من قوة مالية تستطيع تغذية المراجع التقليدية من خارج قنوات الدولة ورقابتها وهيمنتها على الخزينة.

المشكلة لا تختصر بالأفكار ولا تختزل بوجود اختلافات في التصورات السياسية وكيفية التعامل مع الجيل الثالث الذي يحمل توجهات لا تنسجم بالضرورة مع برامج الجيل الأول ومتعارضة بالتأكيد مع نزوع الجيل الثاني نحو الاستبداد والديكتاتورية العسكرية. المشكلة بدأت تتجاوز عمليا الحدود الفكرية للاختلاف وأخذت تتوجه نحو غلق أبواب التفاوض وإقفال قنوات تصحيح المسارات التي تنقذ الجمهورية من انزلاقات دموية.

فات الأوان

إيران على مشارف انعطافة تاريخية في علاقاتها البنيوية، ويرجح إذا تأخر المرشد في التدخل السريع لضبط التوازن وإعادة الاستقرار لهيكل الدولة أن تتطور الأمور إلى درجة قصوى من التوتر تمنع تحويل المبادرات التسووية إلى خطط عمل تنقذ النظام من الانجرار نحو الفوضى والتخبط والمغامرة. ومصلحة شريحة الطفيليات ألا يتجاوب المرشد مع تلك النداءات التي أطلقها رفسنجاني ومطهري وموسوي لأنها ستكون مضطرة للتسوية على حساب مصالحها ومواقعها.

المصالح الضيقة هي التي تحرك تلك الشريحة وتشجع أصحاب الرؤوس الحامية على تنظيم مظاهرات تحرض المرشد على إعطاء رخصة شرعية تغطي التجاوزات والملاحقات وعمليات التعذيب والاغتصاب والاغتيال. فالرخصة تريدها تلك الشريحة حتى ترفع عن كاهلها مسئولية القتل وتبدأ باستغلالها للانقضاض على رموز الجيل المؤسس وأبناء كبار الشهداء (بهشتي، مطهري، باهونار) الذين ساهموا في صوغ الدستور وبناء الدولة.

المشكلة بدأت تتجاوز الإطار الفكري ويرجح أن تتسع وتتفاقم إذا لم يتم التجاوب مع تلك المبادرات التسووية وإعادة هيكلة الخلافات وتنظيمها وفق جدول هرمي يعتمد أولويات ترتب الملفات في سياق تصالحي. وهذا النوع من التفكير ترفضه تلك الشريحة المستفيدة من الفوضى بل إن أصحاب الرؤوس الحامية تحرض المرشد على رفضها وتطالبه بإعطاء رخصة للقتال والاجتثاث وإهدار الدماء بذريعة الدفاع عن النظام والجمهورية.

السؤال الآن يتركز على نقطة حاسمة وهي هل فات الأوان ولم يعد بإمكان حتى المرشد وضع حدّ للتجاوزات أم أن هناك مساحة لا تزال موجودة للتفاوض والدخول في تسوية تاريخية تقطع على الأزمة احتمال انفجارها؟

القراءات العامة بدأت تتجه نحو ترجيح السلبيات على الإيجابيات وهي مرشحة للتصاعد والتضخم والاتساع إذا تأخرت القوى العاقلة في التجاوب مع المبادرات. فإيران في العام 2010 سيكون وضعها أسوأ مما كانت عليه في العام 2009 وذلك لاعتبارات بنيوية تتمثل في نمو قوة تلك الشريحة المستفيدة من الهيمنة على مصادر الثروة. وهذه المشكلة ليس فكرية وإنما اقتصادية وهي تتطلب تسوية قاسية تعيد ترتيب التوازنات في إطارات تتجاوز تسلل الطفيليات إلى مواقع السلطة وقراراتها.

مبادرة موسوي للتسوية جاءت في موضعها لأنها كشفت الطرف الذي يرفض المصالحة ويشجع على الانتقام والفوضى. فالنقاط الخمس لم تتحدث عن شرعية حكومة محمود أحمدي نجاد لأنها أصبحت من الأمور التي يفرضها الواقع وتحتاج إلى مجرى زمني لتصحيحها بل توجهت مباشرة إلى تلك الملفات التي ترى قوى الاعتراض أنها تشكل أساس الأزمة ويمكن أن تنقذ البلاد من التقوض الأهلي والانكفاء إلى الداخل بحثا عن «الأعداء».

هذه النوايا الحسنة صحيحة نظريا إلا أن الأزمة يرجح أن تكون قد تجاوزت هذه المرحلة ودخلت في انعطافة حادّة تقودها الرؤوس الحامية التي لا تعترف أصلا بوجود أزمة ولا ترى في تلك الساحات التي احتشدت فيها قوى الاعتراض في العاصمة ومختلف المدن وحواضر المحافظات سوى مسرحية عملاء تحركهم أصابع خارجية. وخطورة مثل هذه العقلية المجوفة من التفكير أنها يمكن أن تتحول إلى قناعات سلطوية وتساعد تلك الشريحة من الطفيليات على تبسيط الأزمة واستسهال كسر شوكة الشارع من خلال مواصلة سياسة الضغط والدفع باتجاه التصادم الدائم.

عند هذا الحد يمكن القول إن إيران باتت على عتبة خطيرة أخذت تتجاوز احتمالات الحل السلمي ودخلت مرحلة إقفال الأبواب أمام مبادرات التهدئة