العدد 2674 - الخميس 31 ديسمبر 2009م الموافق 14 محرم 1431هـ

ضمور الفلسفة في الأندلس ونمو التصوف

عن صلة ابن رشد بابن عربي (1)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

شكلت محاولة ابن رشد في الجمع بين الشريعة والحكمة (الفلسفة) خطوة نوعية في سلسلة الفلاسفة التي بدأت أنشطتها المعرفية منذ نهاية القرن الهجري الأول. فالمحاولة جاءت في سياق تراكم تأسست خطواته الجدية حين بدأت حركة الاعتزال (فرق المعتزلة) بالانتقال من طور الاجتهاد في الكلام إلى طور التفلسف.

لم تنجح المعتزلة في خطواتها بسبب انقساماتها وانزلاقها إلى لعب دور القائد الأيديولوجي للسلطة السياسية في مطلع العهد العباسي ما أدى لاحقا إلى انحرافها عن وظيفتها المعرفية وانخراطها في صراعات عقائدية مع الفقهاء وانتهاء دورها التاريخي في معادلة القوة.

ابن رشد لم يكن خارج الفضاء العام للتاريخ الإسلامي وتلك البيئات السياسية التي أنتجت المعارف واجتهدت في تطوير العلوم ولكنها فشلت في استكمال مهمة الربط بين الشريعة والحكمة. فهذه المهمة التاريخية تساقطت خطوة بعد خطوة منذ أن بذل الكندي جهده المبكر في التوفيق بين الإسلام والفلسفة، ثم جاء الرازي والفارابي وابن سينا والمعري وغيرهم من دون جدوى.

مهمة الدمج بين العلمين تعرضت للنقد وقاد الإمام الغزالي معركة ترسيم الحدود للفصل بين الاتجاهين ما أدى إلى توليد خطوط فلسفية مستقلة للفقه الإسلامي مستفيدة من المعركة الكلامية التي بدأها الإمام الأشعري ضد المعتزلة (مقالات الإسلاميين) وصولا إلى تلك المواجهة الموازية التي باشرها ابن حزم الظاهري في الأندلس.

لم تختلف نتائج المعركة في المغرب عن تلك التي انتهت إليها في المشرق. فالمحاولات التي بدأ بتأسيسها ابن باجه وابن طفيل في الأندلس انتهت إلى الفشل بعد محنة ابن رشد وغيابه عن المشهد السياسي.

محنة ابن رشد ليست في جوهرها فلسفية وإنما سياسية وهي نتاج تراكم محاولات اجتهدت نظريا في توليف الشريعة مع الحكمة ولكنها فشلت في اختراق «محرمات» كان من الصعب تجاوزها خارج نطاق العلوم العملية التي لعب الفقهاء دور القيادة الميدانية في تطويرها وتحويلها إلى مادة يومية تخدم الناس في حياتهم ومعاشهم وقلقهم الوجودي.

ابن رشد يعتبر نوعيا الحبة الأخيرة في العنقود الفلسفي من أيام الكندي في بغداد إلى زمن ابن طفيل في الأندلس. وخلال هذه القرون من المحاولات تشكلت منظومة معرفية للفلسفة الإسلامية استطاعت التقدم باتجاه تطوير النسق الفكري للعلوم الدينية (الفقهية) مقابل تراجع مشروع الدمج بين الشريعة والحكمة.

بعد رحيل ابن رشد لم تغب الفلسفة عن البيئة الإسلامية وإنما بدأت تتطور لاحقا لتأخذ موقعها الخاص في مجال الفقه (الإمام الشاطبي في كتاب الموافقات) أو الاجتماع العمراني (المؤرخ الفيلسوف ابن خلدون في مقدمته) أو منهج الهدم أو تأصيل الأصول (المدرسة الجوزية في دمشق مثلا). وشكل هذا التطور الفقهي خصوبة في تنويع الاجتهادات ودفعها قدما نحو إعادة هيكلة المنظومات الفلسفية للمذاهب الإسلامية. وجاء هذا التقدم في مجال «فلسفة الفقه» في وقت أخذ يتراجع «فقه الفلسفة» عن موقعه المتقدم في مجال الترجمة والانتحال.

محنة الفلسفة في الإسلام ليست فكرية فقط وإنما هي معضلة مركبة من مجموعة عوامل انتهت بها أخيرا إلى فشل محاولة الجمع بين الشريعة والحكمة. فهناك أولا عدم قدرة الفيلسوف المسلم على اختراق المحرمات أو المقدسات ماجعله يتعثر في الإجابة عن سؤال «الواحد» و«الصانع» و«العلة الأولى» و«الجزء الذي لا يتجزأ» و«قدم العالم» و«الوجود» و«العدم» والبداية والنهاية (الحياة والموت). فهذه الأساسيات الشرعية ضغطت على الفيلسوف باتجاه البحث عن مجال يطمح نحو التوفيق بين العلوم الشرعية والعلوم العقلية ما أعطى فرصة للفقهاء بالهجوم المضاد وأخذ أدوات الفلسفة واستخدامها في المواجهة الكلامية الفقهية مع الفلاسفة.

وهناك ثانيا قصور الفلسفة عن الاستجابة للمتغيرات الظرفية والمعرفية والسياسية التي كان يمر بها العالم الإسلامي من مشرقه إلى مغربه. وعدم قدرة الفلاسفة على التكيف أعطى فرصة للعلماء (الفقهاء) في تجاوزهم حين نجحوا في الربط بين العلوم النظرية (الخاصة) والعلوم العملية (العامة) ما جعل الفقه هو المادة الخصبة في تعامله اليومي مع الجمهور.

وهناك ثالثا ضعف الفلسفة في تعاملها مع العلوم النفعية وانشغالها في ملاحقة القضايا النظرية العامة التي تحلق عاليا في الفضاء الخارجي للعالم اليومي وتنعزل ميدانيا عن حركة الواقع في ميدان البشر الأرضي. وأدى هذا الضعف إلى عزلة الفلسفة وخروجها على السياق العام للأنساق المعرفية الإسلامية وعدم انسيابها في قنوات الناس وحاجاتهم إلى أجوبة عن أسئلة يومية. وزاد الطين بلة فشل فقهاء الفلسفة في الربط بين تطور العلوم والمنظومات المعرفية ما أدى إلى تقدم فلاسفة الفقه ونجاحهم في استخدام المنتوجات العلمية والاختراعات والاكتشافات للدلالة على نمو العقل الجزئي (النسبي) وتطوره باتجاه العقل الكلي (المطلق).

وهناك رابعا انتفاء نظام الحماية وعدم وجود سلطة قادرة على ضبط التوازن بين مهمات التفكير العقلاني وحاجة الدولة للجمهور واستثماره للدفاع عنها حين تتعرض الإمارة للمخاطر السياسية. وشكل هذا التفاوت بين وظيفة المثقف وحاجة السلطة إلى الناس ثغرة في منظومة الفلسفة العملانية ما أطلق المجال لقيام الفقيه بدور القوة الناظمة أحيانا والضابطة أحيانا أخرى لتحقيق التوازن بين النظري والعملي.

محنة ابن رشد إذا لم تكن خارج التطور التراجعي للفلسفة أمام الفقه. فالفقه حين تقدم من الحديث والرأي إلى الكلام والفلسفة نجح في نسج منظومة معرفية مستقلة تجاوزت مهمة الفلاسفة في الجمع بين الشريعة والحكمة. وأدّى التجاوز إلى تشكيل مدارس فقهية متقدمة فلسفيا وتاريخيا وسياسيا على مختلف الاجتهادات النظرية التي تتوجت نوعيا في محاولة ابن رشد الأخيرة وفشله في تحقيق تلك المهمة الموروثة تتابعيا منذ أيام الكندي.

خروج ابن رشد من الزمن لا يمكن عزله عن خروج الأندلس من التاريخ الإسلامي. فهذه المسألة الحضارية لا يمكن إسقاطها أو تجاهلها من المعادلة التي تأسست على توازن القوة بين الشريعة والحكمة. وما حصل في المشرق تكرر في المغرب إذ لعبت المتغيرات السياسية دورها في التأثير على تكوين الذهنية وتعديل أولوياتها وتشكيل أدواتها.

سقوط بغداد في المشرق أدى إلى انهيار الخلافة العباسية بفعل غزوة المغول ما أنتج لاحقا تأسيس «المدرسة الجوزية» في دمشق ونمو أصولية إسلامية (ابن تيمية مثلا) تقطع الصلة مع تلك المعارف المنحولة (الترجمة والتعريب) التي انتقلت رويدا إلى المنتوج الفلسفي للحضارة الإسلامية.

في المغرب (الأندلس) تأسست قبل غياب دولة الموحدين تيارات صوفية استجابة لمشاعر الخوف التي أنتجتها «حروب الاسترداد الفرنجية» وما أسفرت عنه من تساقط المدن والإمارات الإسلامية. فالأندلس كانت تقليديا تلك القلعة الحضارية المتقدمة في المجال الجغرافي الحيوي الأوروبي وبحكم موقعها على خط التماس بين المسيحية والإسلام تشكلت اجتهادات معرفية خضعت للمتغيرات التي كانت تعصف بالاستقرار وتضع المسلمين أمام تحديات ومستقبل مجهول.

الحضارة الإسلامية في المغرب (الأندلس) تعرضت بدورها لغزوات عسكرية متتالية تشبه تلك التي تعرضت لها الحواضر الإسلامية في الشرق الإسلامي. في المرحلة الأولى سقطت مدينة طليطلة لتغيب معها حقبة زمنية امتدت من العام 478 إلى 633 هجرية (1085 - 1236م). وفي المرحلة الثانية سقطت مدينة قرطبة لتغيب معها حقبة زمنية امتدت من العام 633 هجرية (1236م) لتتوج بسقوط غرناطة (آخر إمارات المسلمين في الأندلس) في العام 897هـ (1492م).

بين سقوط طليطلة وسقوط قرطبة عرفت الأندلس حركة فكرية فلسفية أخذت تتكسر حلقاتها تباعا من ابن حزم وصاعد الأندلسي وابن باجه وابن طفيل وانتهاء بابن رشد. وبين سقوط قرطبة وسقوط غرناطة (نقطة تحول تاريخية في توازن القوة بين أوروبا والإسلام) أخذت الفلسفة الإسلامية (فقه الفلسفة) بالتراجع والاضمحلال والسفر بعيدا إلى أوروبا مقابل نمو فلسفة الفقه في المغرب إلى جوار انتشار التصوف في عالم أخذ يتشرذم وينهار. فالصوفية التي امتدت قنواتها كانت ردا نفسيا (ذهنيا) على الخوف من المستقبل وضمور حضارة المسلمين في الأندلس.

في هذا الإطار المتدحرج سيولد ويعيش ابن عربي الذي قاد الفلسفة من دائرة العقل إلى عالم التصوف وأعاد إنتاج التصوف (الزهد) في نطاق نزعة فلسفية شكلت تحديات تجريبية في منطقها العقلي للفقهاء ومدارس الفقه.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2674 - الخميس 31 ديسمبر 2009م الموافق 14 محرم 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً